تاريخي مع المطاحن

لأسباب خاصة، قرّرت عام 1964، ترك الدراسة النهارية، وإيجاد وظيفة، مع تكملة الدراسة الثانوية مساءً. لسبب ما استجبت لإعلان من شركة المطاحن، تطلب فيه موظفين كويتيين لإرسالهم للخارج، للدراسة والتدرب على تشغيل وإدارة آلات صناعة الخبز. شيء ما جذبني للسعي للعمل في هذه الشركة، ربما لسابق علاقتي بها، فقد كان والدي يشتري منها كميات كبيرة من أكياس الطحين، ويقوم بتوزيعها على المخابز، وكانت مهمتي، خلال اشهر الصيف تولي البيع نهاراً، والانشغال مساءً بتحصيل قيمتها على أساس أسبوعي، أو ما كان يسمى بـ«المسابعة»، وكان السائق يأخذني في جولة لتلك المخابز، التي كانت حينها تنتشر في كل أحياء العاصمة والأماكن البعيدة كالجهراء والفحيحيل، وكنت أعود بعدها للبيت منهكاً. كرهت تجارة والدي، ورفضت تالياً كل إغراءاته للعمل معه، وقررت الاستقلال مادياً، لم يكن ذلك سهلاً، لكنه خلق مني شيئاً ما.

ذهبت لمقابلة المطاحن، وأتذكر أنه كان عصر يوم عاصف ومغبر، وأتذكر أن خالد الصقر كان يترأس لجنة الاختيار، فأبلغني في نهايتها أنه سيقوم بالاتصال بي تالياً. توفي خالد بعدها، ولحسن الحظ لم يأت ذلك الاتصال، فغيّر حياتي بشكل هائل، حيث حصلت بعدها بيومين على وظيفة في بنك الخليج، بدعم من يعقوب الجوعان، الذي أصبح تالياً صديقي وشريكي، وكان ذلك قبل 60 عاماً، وهكذا أصبحت، بفضل صديق العمر، والشريك المميز في أكثر من شركة ومشروع ناجح، مصرفياً، بدلاً من معلم صناعة عجينة الخبز. تذكرت كل ذلك وأنا أقرأ خبراً تعلق بنية شركة المطاحن والمخابز الكويتية فتح فرع في دبي، ضمن خطتها للتوسع خليجياً وإقليمياً.

تأسست شركة المطاحن في أكتوبر 1961 بملكية حكومية كاملة، لتوفير الأمن الغذائي، وصدر مرسوم تأسيسها يحمل توقيع الراحل الكبير عبدالله السالم، من 14 بنداً بسيطاً، يحاكي الوضع القانوني في تلك الأيام. ولم يكن ضمن أهداف الشركة تحقيق الربحية، بالرغم من أن قانون تأسيسها منحها حق احتكار استيراد الحنطة، وهو الاحتكار، الذي تجدّد قبل عشر سنوات لنصف قرن آخر. اندمجت المطاحن عام 1988 مع شركة المخابز الكويتية، لتصبح ركيزة أساسية في الصناعة الغذائية، وتوسعت أعمالها لتشمل، إضافة للخبز، المعكرونة، والبسكويت، وأول مصنع للزيوت النباتية في منطقة الخليج، وصناعة وبيع الأعلاف الحيوانية، ومنتجات جانبية أخرى. وكانت منذ بداياتها تشجع العمالة الوطنية، وتهتم بتطوير الكفاءات منهم، وقد تكون الشركة الصناعية الوحيدة، التي تبلغ نسبة المواطنين فيها %16.

أعتقد، ولا أجزم، بأن المرحوم علي عبدالرحمن البحر، كان أول رئيس لها، وكان حينها نائباً لرئيس بنك الخليج، على أيامي، وكان مثال الأمين والصادق، وأغلبية من أداروا المطاحن تالياً كانوا من نوعيته، وبالتالي لم نسمع عن الشركة، حسب علمي، أية فضائح أو حالات فساد، وكانت أرباحها دائماً معقولة، فقد قاربت مبيعاتها الـ800 مليون دينار، وحققت دخلاً يبلغ %10، ولم يكن توسعها لدول أخرى يوماً من خططها، ولا حتى ضمن قانون تأسيسها! بالرغم من أن الفكرة جيدة، إلا أنها تتطلب دراسة متأنية، فقد تكون أول شركة حكومية تقدم على مثل هذه الخطوة الجريئة، ولا نريد للتجربة أن تفشل، على ضوء سجل الشركة الجيد طوال 64 عاماً.


أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top