تعليم أسيل.. والحاجة إلى فلسفة جديدة
عادةً ما تسعى الدول المعادية بعضها لبعض إلى الإضرار باقتصاد وأخلاق الشعب الآخر وإضعافه في كل ميدان، وأكثر الطرق فتكًا وفعالية في تدمير أية أمة تكمن في تخريب نظامها التعليمي. والمفارقة أن في حالتنا كفينا أعداؤنا مؤونة القيام بذلك، بعد أن سلمنا هذا القطاع المصيري، بكل طواعية، لأكثر فئات المجتمع تردياً وتخلفاً، فكانت النتيجة خراب «أخلاق وتربية» وتدهوراً مرعباً في المخرجات، بحيث استقر المقام بنا في ذيل قوائم التنافس العالمية، وهو ما يمثل البيئة المثالية لانتشار أفكار التيارات الدينية المتشددة.
وفي هذا السياق، تطرقت النائبة والأكاديمية السابقة أسيل العوضي إلى جوهر الأزمة، مشيرةً إلى أن ضعف التعليم لا يؤدي فقط إلى تراجع التحصيل العلمي، بل إلى إنتاج أجيال غير قادرة على التفكير النقدي، ولا على الإبداع، ولا على تحمل مسؤوليات التنمية، فالإنسان هو جوهر أي مشروع تنموي، والتعليم هو ما يصنع هذا الإنسان.
ورغم أن الدعوة لإصلاح التعليم أصبحت أمراً ملحاً، فإن الإصلاح الحقيقي، برأي العوضي، لا يعني مجرد «تغيير المناهج»، كما يتجه تفكير البعض حالياً، بل أعمق من ذلك، وتطرح التساؤلات الجوهرية التالية:
• هل يكفي تغيير كتاب بآخر لحل المشكلة؟ وأين هي الدراسات التي تثبت أن المناهج هي السبب الرئيسي في هذا التدهور؟
• وإذا سلّمنا جدلاً بأن المناهج هي بيت الداء، فهل يمكن للجان المشكّلة أن تصوغ مناهج متكاملة خلال أسابيع؟ وهل يجمع أعضاؤها على فكر وهدف واحد؟
• ما الفائدة من الخروج بمناهج «مختلفة ومطورة»، بينما العقلية التي تدير العملية التعليمية ـ معلماً وإدارياً ـ لم تتغير، وفلسفة الدولة التعليمية لا تزال غائبة؟
إن الجرح الحقيقي يكمن في «المعلم» غير الكفء، فضعف مهاراته وتسييسه هما أصل المشكلة وجوهر تراجع التعليم.
وبناءً على هذه الرؤية، يمكن القول إن العملية التربوية بكاملها قد خضعت لسيطرة تيارات الإسلام السياسي، فكان من الضروري إعادة تشكيل الخطة لتتسق مع هذا الأمر. فقط تورطنا بأكثر من ثلاثة أجيال من المعلمين المسيسين حزبياً، الذين لا يمكن الوثوق بقدراتهم على تنفيذ أو إنجاح أي منهج جديد، خاصة أن فكرهم وأسلوبهم القائم على التلقين كانا أساس تخريب التعليم برمته. هؤلاء، بسبب انتمائهم السياسي أو افتقارهم إلى التأهيل، لا يمتلكون الكفاءة للانتقال من أسلوب التلقين السهل إلى أسلوب إعمال الفكر وتنمية المهارات العقلية، فـ«فاقد الشيء لا يعطيه».
إن إصلاح هذا الوضع يتطلب ما هو أبعد من تغيير الكتب؛ إنه يتطلب مشروعاً وطنياً ضخماً، واستثماراً طويل المدى في إعادة تأهيل المعلم، ومواجهة مجتمعية لا يجرؤ الكثيرون على خوضها.
وبالتالي نحن بحاجة ماسة لتغيير نمط التعليم، الذي استمر على وتيرته لأكثر من قرن، نجح خلالها في استلاب الطالب حقه في التفكير، ووضعه قسراً ضمن قالب فكري محدد، حرصت قوى مجتمعية وسياسية على بقائه مغلقاً، بعيداً عن الفضاء الحر، ونقد الموروث، والتفكير الخلاق.
لذا، نحن اليوم بحاجة لتبني فلسفة تعليمية جديدة، تنطلق من مشروع دولة، وليس من اجتهاد وزير، مع الاحترام لشخصه، وإن تحقق ذلك، فسيكون الإنجاز الأعظم للنظام.. على الإطلاق.
صراعنا مع العدو حضاري، وما حدث في غزة، وتالياً لبنان، ومؤخراً في إيران، خير شاهد على ذلك، فالنصر يكون دائماً للعلم.
أحمد الصراف