أيامي مع تراث كولبنكيان في البرتغال
قضيت وأسرتي الصغيرة أسبوعاً في فندق منزوٍ وجميل يقع في مدينة كشكايش cascais، القريبة من العاصمة البرتغالية لشبونة، أو لزبوا lisboa، وكانت أياماً رائعة لن تنسى.
تتمتع لشبونة بموقع استراتيجي عند مصب نهر تاجة، ومثالي للتجارة بين المتوسط وشمالي أوروبا والأمريكتين، وأفريقيا، وتعتبر من أقدم مدن أوروبا. غزاها الأمازيغ المغاربة، أو الموريون، عام 711م، فأصبحت البرتغال جزءاً من إمارة قرطبة، قبل أن ينهي ألفونسو الأول حكمهم في 1174م.
ازدهرت لشبونة في القرنين الـ15 والـ16 كعاصمة لإمبراطورية شاسعة، خلال فترة الاكتشافات الاستعمارية، وكانت أهم مستعمراتها البرازيل، لكن القرن العشرين جلب لها اضطراباً سياسياً، بعد اغتيال الملك كارلوس ووريث عرشه، في أكتوبر 1910 ونهاية الملكية، وتأسيس الجمهورية، التي سرعان ما تحولت للدكتاتورية الأطول عمراً في أوروبا الغربية، ولم تنته إلا في السبعينيات، وما تلا ذلك من انسحابها من مستعمراتها الأفريقية وتيمور الشرقية، فدفع ذلك الكثير من سكان هذه المستعمرات للهجرة إلى البرتغال، وهذا ما يلاحظ في سمات نسبة كبيرة من سكان المدن.
يعود اسم البرتغال إلى كلمتي «بويرتو كالي» puerto cale أو «ميناء كالي»، ولا يعرف أحد بالدقة معنى كالي، ومع الوقت تحورت التسمية من «بويرتو كالي» إلى البرتغال، ومنها أطلقنا الاسم على فاكهة «البرتغال»، التي سبقت غيرها بإرسالها لنا، حيث كان العرب قديماً يطلقون عليها «النارنج»، الشديد المرارة والحموضة، وكان يُستخدم في صناعة العطور والمربيات وبعض الأطباق، وهي كلمة فارسية، ومنها انتقلت تالياً إلى أغلبية اللغات الأوروبية، أما برتقال البرتغال فقد كان حلو المذاق، سهل التناول.
من أشهر الشخصيات الاقتصادية والمالية، التي غيّرت وجه لشبونة إلى الأبد، رجل الأعمال والملياردير الأرمني كالوست كولبنكيان، وحكايته مع لشبونة تستحق أن تروى، فقد هرب إليها من باريس، واختارها ملاذاً لمقتنياته الثمينة، خلال أوج الحرب العالمية الثانية.
كوّن كولبنكيان ثروته من نفط الشرق الأوسط، والصفقات الكبيرة التي تلته، ووصل لشبونة عام 1942، وأوروبا تحترق، وكان يقيم في باريس، ويحمل صفة دبلوماسية عن العراق وإيران، لكن وضعه أصبح حرجاً بعد سقوط فرنسا بيد الألمان، حيث اعتبر عدواً كونه مواطناً بريطانياً فخرياً، وكان الدكتاتور سالازار يحكم البرتغال حينها، وسبق أن أعلن حيادها، فوجد كولبنكيان في هذه المدينة الهادئة والمستقرة ما كان يبحث عنه: الأمان، والنزاهة، واحترام القانون. سكن في فندق «أفيز» الفاخر، لأيام لتمتد وتصبح إقامة دائمة استمرت 13 عاماً حتى وفاته في 1955.
أُعجب كولبنكيان، الشهير بالسيد 5%، لحرصه على ألا تتجاوز عمولته أو مساهمته في أي مشروع عن 5%، بـ«لشبونة»، شعباً ونظاماً، ومنها أدار إمبراطوريته الواسعة، والأهم من ذلك وجد فيها ملاذاً آمناً لمجموعته الفنية الأسطورية، التي جمعها على مدار عقود من مختلف أنحاء العالم، وهكذا بدأ بالتخطيط الدقيق لمستقبل ثروته ومجموعته الفنية، التي لا تقدّر بثمن. ومن منطلق الامتنان، فضّل لشبونة على لندن وباريس وواشنطن موطناً لمجموعته الثمينة، كما ترك الجزء الأكبر من ثروته الهائلة لتأسيس مؤسسة دولية تحمل اسمه، على أن يكون مقرها الرئيسي في لشبونة، لتكون في خدمة البشرية، ودعم الفن، والعمل الخيري، والتعليم، والعلوم. وتم في عام 1969 افتتاح المقر الرئيسي لمؤسسة كالوست كولبنكيان في لشبونة، الذي صمّمه كبار المهندسين المعماريين البرتغاليين، ولم يكن مجرد متحف، بل كان مجمعاً ثقافياً متكاملاً، يضم آلاف القطع الفنية من مختلف الحضارات المصرية والإغريقية والرومانية، مروراً بالفن الإسلامي والأرمني وفنون الشرق الأقصى، وصولاً إلى روائع الفن الأوروبي ولوحات لـ«رامبرانت» و«روبنز» و«مونيه»، ومجموعة فريدة من مجوهرات رينيه لاليك، كما ترك وراءه أشهر أوركسترا أوروبية تعرف باسمه، ومكتبة فنية وأرشيفاً ضخماً، ومعهد كولبنكيان للعلوم، وحدائق كولبنكيان الواسعة، التي أصبحت رئة لشبونة، وتحولت العلاقة بين الرجل ومدينته إلى واحدة من أعظم قصص العطاء في القرن العشرين، حيث منح رجل واحد عاصمة بأكملها هدية لا تقدر بثمن، منحها إرثاً من الفن والعلم والمعرفة والجمال يواصل إلهام الأجيال.
أحمد الصراف