الحرية أخيراً.. من كل ارتباط
انتهت علاقتي، قبل بضعة أيام، بشكل رسمي، بآخر ما كان يربطني بعالم المال والأعمال والأسهم والشركات والسندات، والعقود والمناقصات، التي استمرت لأكثر من نصف قرن.
كانت العلاقة خلالها مليئة بالنشاط والعمل مع شركاء مميزين، وتخللتها اخفاقات كثيرة، وخسائر كبيرة، لكن المحصلة النهائية كانت إيجابية، ماديا ونفسيا، خرجت منها بسمعة طيبة، أفتخر بها، ويكفيني أن لا جهة، سواء كانت فردا «حسودا وحقودا»، أو حزبا سياسيا دينيا متخلفا، نجح في تشويه سمعتي، أو إدانتي، في أية كتابة صحافية أو تجارية، بالرغم من كل ما أوتوا من قوة وبطش، وعلاقات واتصالات ومعلومات، وبالتالي لم أدن، كما تمنوا، بأية مخالفة أو تصرف مخل بالشرف، بمعناه الحقيقي الواسع، المتعارف عليه بالمنطق الدولي، واجتزت بنجاح، منفردا أحيانا، وبدعم مادي ومعنوي من أسرتي، وفي أحيان عدة من إدارة القبس، ومن وقف معي من رفاق الدرب، في الخروج من كل «معاركي» بأقل الخدوش والخسائر، بالرغم من عشرات القضايا التي قامت جهات سياسية دينية، وشبه حكومية، وأفراد وشركات، برفعها ضدي. وكنت ولا زلت أتعلم من مدرسة القبس في كيفية إدارة الأمور، وكيف يمكن للكاتب أن يكون صادقا مع نفسه، وفيا لقرائه، وأن ينجح، غالبا، في أن يقول ما يشاء، دون أن يضطر للتنازل عن أي من المثل والمبادئ، التي يؤمن بها، ولا يعني ذلك بتاتا كمال الخلق والتصرف، فلست في وارد وصف نفسي بمثل هذه الأوصاف، بل استطيع الادعاء بأنني بذلت جهدا في مقاومة مغريات كثيرة، وتسبب ذلك في الإضرار بمصالح شركائي، وعندما اشتكى أحدهم، بطريقة لبقة، عن تلك الاضرار، كان جوابي بأن عليه أن يتقبلني كما أنا، full package بكل ما أمثله من مزايا وعيوب، وما أكثر الأخيرة، وألا يتوقع مني أن أكون صادقا معه في التجارة، متحايلا فاسدا في الكتابة، أو العكس، فمبادئي كانت تفرض عليّ معاداة من اعتقدت أنهم يمثلون خطرا على المجتمع، ومن استخدموا الدين غطاءً لتبرير فسادهم وسرقاتهم.
كانت الكتابة في القبس، ولا تزال، تجربة ممتعة ومفيدة، أخلاقيا ونفسيا واجتماعيا، لكن مقالاتي تسببت في خسارتي لصداقات، لم أندم عليها، ولخسائر مالية، نتيجة توقف بعض الشركات عن التعامل معنا، لأنني هاجمت مسؤولا أخطأ، وتصادف انتماؤه للعائلة التي تمتلك الشركة الكبيرة التي نتعامل معها! ولا أنسى التجربة الأخلاقية الجميلة التي دخلتها، في بداية تولي الأستاذ وليد النصف رئاسة تحرير القبس عندما اعتذر، بكل لطف، عن نشر مقال تضمن نقدا لاذعا لتصرف «غير لائق» بدر من أحد فنادق العاصمة، وكان من الممكن أن يصب مضمون مقالي في مصلحة فندق منافس له، تعود ملكية جزء كبير منه، لأسرته، إلا أن جميل خلقه أبى عليه استغلال الأمر لمصلحته. كما تعلمت من مدرسة القبس، التي طالما «حردّت» وتمردت عليها، وتوقفت عن الكتابة فيها، لأيام، تعلمت منها لغويا وفنيا وقانونيا، مما سهل علي كثيرا تقبل قرارات رفضها نشر عدد لا بأس من مقالاتي، التي كان يتعبني كثيرا كتابتها، كوني رجل أعمال، ولست بالكاتب المحترف، وتعلمت أن رفضها النشر كان ينبع دائما من رغبتها في حمايتي والجريدة من أية قضايا. سبب العودة لهذا الموضوع يعود إلى أن السنوات الثلاثين التي كنت أكتب فيها مقالاتي حرصت كثيرا خلالها على عدم استغلال العمود لتحقيق مصالحي الشخصية والتجارية، بل العكس كان هو السائد غالبا، فقد كتبت ناصحا، في أكثر من مناسبة، وضد مصالحي، والأمثلة أكثر من أن تذكر، وكان موقفي مثار استغراب من البعض، من شركاء وأصدقاء، ولكن ذلك كان يمثل شخصيتي المتمردة، والتي لا تزال تكمن داخلي، وعليه سأكون الآن أكثر تحررا فيما أكتب، غير ملتفت لأمور كنت أعطيها أحيانا شيئا من الأهمية، وهذه راحة نفسية لا يمكن تصور سعادتي بها.
ومن يمتلك دليلا على عدم أمانتي، أو «تمصلحي» من أي عقد حكومي، حتى بألف دينار، فليتقدم الآن، أو فليخرس إلى الأبد.
أحمد الصراف