استفت. عقلك ولو خالفت المفتين
تعيش المجتمعات الإسلامية، والعربية منها بالذات، في بحبوحة تعليمية، فالمدارس كثيرة وموجودة في كل مكان. كما تمتلئ العواصم والحواضر بالمعاهد والجامعات، ولا توجد إلا أجزاء قليلة لا تزال بحاجة الى بناء مدارس!
هذا ما تقوله نشرات حكوماتنا، ولكن الحقيقة غير ذلك تماما. فلو نظرنا الى ظاهرة الدعاة الجدد، وتعاظم عددهم يوما بعد يوم، والى كل هذا الكم من الفتاوى التي تصدر باستمرار عبر مختلف وسائل الإعلام، خصوصاً القنوات التلفزيونية الدينية، غير الفتاوى الشخصية، ولأتفه المسائل التي لا تحتاج إلى كبير عقل لمعرفة الجواب عليها، لتبين أننا إما أمة جاهلة أو أقل من ذلك بسبب عدم رغبتها في بذل الجهد لمعرفة الحقيقة، والميل إلى تكليف الغير بمهمة التفكير عنها. فالجهل بأمور الدين والخوف من كلام الناس في الدنيا والرهبة من العقاب الأخروي، وانعدام الرغبة في البحث والقراءة وتشغيل العقل دفعت الكثيرين الى اللجوء لمن يتوسمون فيهم المعرفة ليفتوا لهم.
كما يمكن القول ان الكم الكبير من المستجدات، التي وجد المسلم المعاصر نفسه يواجهها بصورة شبه يومية، والتي سبق أن زين له البعض عدم قدرته على التصرف إزاءها بطريقة سليمة بغير نصيحتهم، دفع الكثيرين الى اللجوء لمن لديه الاستعداد لتحمل مسؤولية الإفتاء. وقد ساعد القصور في الفهم والمعرفة الذي تعانيه طبقات كاملة من مجتمعاتنا في دعم هذا الاتجاه، خصوصاً أن الفتوى عادة ما تكون منقذة ومطمئنة و.. ببلاش!
ويمكن القول أيضا ان الفتوى سلاح سياسي كثيرا ما تلجأ اليه حكومات عدة، إما لتشجيع اتجاه ما أو للتنفير منه. كما يستخدم الإفتاء لتكفير جماعة أو تقريب أخرى طمعا في كسب سياسي داخلي أو خارجي، وكمثال على ذلك الفتوى السياسية التي «أوعز» جمال عبدالناصر للأزهر بإصدارها.
كما كان للفتوى الدينية دور هائل في النشاط الاقتصادي، أو في تعزيز جهة أو خذلان أخرى، وهذا كان سائدا منذ اليوم الأول.
ويقال ان فتوى شيعية صدرت عند تأسيس البنك الوطني (1952) شجعت أصحاب الودائع على إبقاء ودائعهم في البنك البريطاني، الأقدم وقتها، لأن نقل ودائعهم الى الوطني وأخذ فوائد عليها قد يضر بالبنك الوليد، وبالتالي من الأفضل إبقاء الودائع لدى البريطاني الكافر والإضرار به!
كما صدرت فتوى مماثلة في إيران أيام الشاه حظرت تناول مشروب غازي معروف لأن صاحبه يدين بالبهائية! وقد خسرت الشركة الكثير جراء تلك الفتوى، وفقد عمال مسلمون وظائفهم في المصنع! وقيل ان أسبابا مالية تتعلق بدفع الخمس كانت وراء صدور تلك الفتوى!
ولا ننسى هنا الفتاوى المتضاربة المتعلقة بتحليل فوائد البنوك التجارية، ومدى أثرها السلبي على أرباح الكثير من المؤسسات المصرفية، وهي التي سبق أن تضاربت في شأنها الأقوال، فشيخ الأزهر سبق أن أفتى بعدم حرمة فوائد الودائع المصرفية، وهذا خالف فتوى أخرى لمفتي الديار المصرية!
وهناك أسباب أخرى للإفتاء تتعلق برغبة جهة ما، أو فرد، في إشهار نفسها والاستفادة المادية والمعنوية من ذلك، كفتوى عميد شريعة سابق عن الانتخابات النيابية.
وقد سبب تعدد مصادر الإفتاء وكثرة المفتين وتناقض فتاواهم اصابة المواطن المسلم، والعربي بالذات، بدوشة وضياع ما بعده ضياع، وهذا أدى الى حالة من الشرود والوهم الديني الذي تعيشه مجاميع كبيرة من المواطنين والمقيمين.
ونرى هنا أن الدولة العصرية تحتاج، إن كان لا بد، الى جهة واحدة يحصر فيها أمر إصدار الفتاوى التي لها تأثير في حياة الناس. وليس هناك من يفوق البرلمان أهمية للقيام بهذه المهمة، والذي من حقه تكليف من يراه للقيام بتولي الجانب الفقهي من الموضوع؟
وأكثر الطرق فاعلية لوقف هذا السيل العرمرم من الفتاوى يكمن في زيادة الجرعة الثقافية والتعليمية، سواء في المدرسة أو في وسائل الإعلام وقنوات الثقافة كالكتاب والمسرح والسينما. ومن الضروري رفض الفتوى المستوردة، أيا كان مصدرها.
ملاحظة: ابن سينا، الملقب بالشيخ الرئيس، والفارابي الملقب بالمعلم الأول، من أعظم علماء المسلمين على مر العصور، واللذان دان بفضلهما الغرب قبل غيره، سبق أن صدرت بحقهما فتوى «تكفير» من الإمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال»!!، وقد أيد تلك الفتوى ابن تيمية وابن القيم الجوزية، ولا تزال تلك الفتوىسارية حتى اليوم.