الغول والعنقاء والخل الوفي
لا اعرف أيا من اغاني الفنانة ماجدة الرومي، ربما يعود سبب ذلك لطغيان صوت فيروز على ذوقي وفكري من جهة، وربما لعدم استساغتي لصوت الاولى من جهة اخرى. ولكن هذه السيدة استطاعت، خلال عشر دقائق، ان تهزني من الاعماق، وتسحب الدموع قسرا من مقلتي المرة تلو الاخرى بعد ان شلت قدرتي على المقاومة وانا استمع لها وهي تلقي كلمتها في الذكرى السنوية الاولى لاستشهاد النائب والصحافي جبران ابن الكبير غسان التويني.
بعزم وقوة ومن دون لعثمة او تردد وبصوت واضح وبمنتهى القسوة الادبية، قالت كلمتها ورأيها في ما هو جار في وطنها لبنان منذ اكثر من ثلاثين عاما، ولا يمكن تخيل، لمن لم يسمعها، كم كانت صادقة وباهرة ودقيقة ومؤلمة في ما قالته.. قالت، وبلهجتها اللبنانية المحببة: 'كم سنة بعد راح ننطر تنشوف خلاص لبنان. كم قلب لازم ينكسر وكم بيت لازم يخرب وينكسر وكم لبناني لازم ينام على الهم ويفيق على الغم وكم شب وصبية لازم يفلوا تا تجتمعوا وتتفقوا وتقرروا وتنهوا ها لوضع المأساوي اللي نحنا فيه.
'كيف فينا ننقسم لدرجة انه انا مثلا الاقي ناس تقول لي اوعك تروحي تصلي في جناز بيار. او اوعك تروحي تحكي بذكرى جبران!
مين التانيين؟ مين الأولين؟ مش كلنا لبنانية؟ وهالشهدا كلن يللي ماتو بصدق وبدون تجميل من اقصى جنوب لبنان لاقصى الشمال، من شهدا الجيش لكل اللي ماتوا إلنا، لخيرة شبابنا واللي كانوا معهم ومرافقينهم مش كلهم ذنبهم انهم لبنانية؟ ما عدنا نلتقي حتى على الشهدا! صارفيه شهيد إلهم وشهيد إلنا؟! كم هو مؤلم هذا الحكي وانا برفضه واعلن من هون انه يشرفني اكون في جناز بيار ويشرفني اكون في ذكرى جبران، واذا انا متهمة بأني لبنانية.. نيالي!'.
***
مساحة هذا العمود المحدودة لا تكفي لكتابة كل ما قالته هذه الفنانة، التي كبرت كثيرا في عيني وفكري، ولا يمكن تخيل روعة ما قالته دون سماعها ورؤيتها وهي تتكلم بجمال وثبات وصدق، وكأن كلماتها طلقات تخرج من فمها لتصيب صدور السياسيين اللبنانيين الذين اوصلوا الحال في ذلك البلد الجميل لما هو فيه الآن، والاقرب للكارثة منه لأي شيء آخر.
ما ورد في كلماتها جعل مشاعري تختلط بشدة. فمن جهة بات واضحا مدى عظمة لبنان الى درجة اصبحنا نردد مع الآخرين ان اهله غير جديرين به.
ومن جهة اخرى، اصبحنا نردد في الوقت نفسه ان وجود هذه السيدة وامثالها كفيل باستمرار لبنان المحبة والعطاء الى الابد.
ان لبنان، كما كررنا في اكثر من مناسبة وكلمة ومقال، لا يحتاج لمحبة مواطنيه بقدر ما هو بحاجة لاحترامهم! واعتقد انني لم اقابل حتى هذه اللحظة، على الرغم من مرور اكثر من خمسين عاما على معرفتي الوثيقة بلبنان، ارضا وشعبا، من هو على استعداد لان يحترم وطنه، ويضعه قبل الدين وقبل الطائفة وقبل رأي الزعيم!
وحتى ايجاد ذلك المواطن، يبقى تشاؤمنا السابق على ما هو عليه.
ملاحظة: لمن يود تسلم كلمة السيدة ماجدة الرومي الاتصال بنا عن طريق عنوان الانترنت ادناه.