كنا أكثر إنسانية قبل نصف قرن
من الواضح ان نسبة لا يستهان بها من المتدينين، أو من تبدو عليهم مظاهر التدين، من لحية إخوانية خفيفة أو سلفية كثة، هم من الوصوليين الذين عرفوا جيدا ان المناصب العليا والترقيات المجزية لا تأتي بغير إيهام البعض بتدينهم وبأنهم من المنتمين لجماعة أو لحزب ديني محدد!.. ومن غير الغريب ان العكس هو الحاصل مع غالبية متديني الطرف الآخر، إلا الغلاة منهم. حيث نجدهم أكثر حرصا على عدم المجاهرة ب 'تقواهم' لكي لا يحرموا من الترقيات والعلاوات والحلويات!
هذا التظاهر زاد من نسبة المنافقين بيننا من جهة وزاد من حجم التناقض داخل النفس من جهة أخرى. فما ترغبه نفوسهم وتحن إليه شيء، وما تستوحيه لحاهم من تصرف معين شيء، آخر والاثنان يتصارعان في داخلهم ليخلقا التناقض. ومدى تأثير هذا التناقض على مصداقية هؤلاء وتوازنهم الداخلي لا يمكن الاستهانة به، وهو لا شك خطير ويمتد تأثيره لطريقة تربيتهم لأبنائهم.
ومرتادو السمرات والسهرات الغنائية، الرجالية بالذات، لا يستغربون وجود بعض المتدينين بين الحضور، والذين ما ان يروك حتى يبادروا بتحيتك وسوق مختلف الأعذار لوجودهم في ذلك المكان، وبأن قلوبهم ملت ونفوسهم كلت من كل ذلك التزمت الذين يعيشونه، قسرا أحيانا. وأنهم، وهنا يحمدون الله ويثنون على رسوله، أنهم لا يزالون على سنتهم وقديم طبعهم في الامتناع عن أكل أو شرب كل ما هو محرم!
* * *
مظاهر النفاق التي تلفنا اليوم لم يكن المجتمع الكويتي، مجتمع ما قبل أموال النفط الطائلة، يعرفها بكل ألوانها الحالية الصارخة والفاقعة. ففي منتصف الستينات، قامت 'حكومة الكويت الليبرالية' ممثلة بوزارة المعارف، بإرسال مجموعة من الفتيات الكويتيات لتكملة دراستهن في جامعة القاهرة.
وعندما أقيم قبل أيام احتفال لتكريم السيدتين، نورية الصبيح ومعصومة المبارك، على المنصب الوزاري، طالبت سيدة بضرورة شمول التكريم فتيات الدفعة الأولى التي ذهبت قبل أكثر من 50 عاما للدراسة في الخارج!! وهنا وقفت واحدة من اللواتي كن ضمن تلك الدفعة، وقالت: إن التكريم يجب أن يذهب لآبائنا!! فقد كنا لا نحلم حتى بإنهاء دراستنا الثانوية وكنا نعتقد انها نهاية المطاف في حياتنا الدراسية. وبالتالي فإن مواقف آبائنا العظيمة هي التي تستحق التكريم، فقد كان بإمكانهم قول 'كلا' وكنا سنتقبل ذلك من دون اعتراض!
نعم، لقد ولى ذلك الزمن الجميل، زمن التسامح وحب الغير حتى لو كان من دين أو لغة أو جنسية مختلفة، وحل محل كل ذلك هذا الحقد على الآخر والكراهية له ولكل ما له صلة بثقافته أو عاداته أو تقاليده.
نعم، لقد كنا قبل نصف قرن إنسانيين ومتسامحين، وكان من المفترض، كما حدث مع شعوب الأرض كافة بلا استثناء، أن يدفعنا التطور والتمدن والحداثة وزيادة الاحتكاك بالآخر إلى ان تزيد إنسانيتنا وتسامحنا أكثر، ولكن ما حدث هو العكس. والسبب يعود في المقام الأول للثراء الكبير الذي جاء مع النفط. فهذه الثروة التي جلبت كل هذا النعيم المادي جذبت معها التخلف الفكري أيضا!.. فبغير ذلك لم يكن بالإمكان السيطرة على كل هذا الثراء وصرف موارده على غير المجدي من الأمور!