شكرا للعلماني
ِِ لستين عاماِِ فضلت حكومة الولايات المتحدة مبدأ استقرار دول منطقة الشرق الأوسط على حساب مبادئ الديموقراطية فيها، ولم نتمكن من تحقيق شيءِ ونحن الآن بصدد أخذ طريق مختلف'.
(كونداليسا رايس ـ وزيرة خارجية الولايات المتحدة)
نشبت الحرب بين جبهة تحرير جنوب السودان، بقيادة جون غارانغ، وبين حكومة الخرطوم عام 1983، وحصدت خلال هذه الفترة أرواح أكثر من مليوني شخص من الطرفين وتسببت في تشريد ضعف ذلك، كما أبيدت خلال الفترة نفسها محاصيل وماشية وممتلكات بمئات مليارات الدولاراتِ وتعتبر حروب السودان الأهلية أطول وأشرس حرب عرفتها القارة السوداءِ وبعد مرور كل هذه الفترة ووقوع كل هؤلاء الضحايا تبين لحكومة السودان المركزية أن حربها مع جبهة تحرير الجنوب سوف لن تنتهي لصالحها، وأن من الاستحالة، ومن غير المنطق، فرض أحكام الشريعة الإسلامية على شعب الجنوب المكون في غالبيته من مسيحيين ووثنيين، كما كان يرغب رئيس السودان السابق، 'الإمام' جعفر النميري!
وهكذا دخلت 'العلمانية' من أوسع الأبواب لتقدم من خلال مضمونها المنطقي حلا إنسانيا وطبيعيا لمشكلة الحرب الأهلية في السودان، وذلك عن طريق المساواة بين الجميع أمام القانون، وهي المساواة التي كرسها اتفاق 'ابوجا' التاريخي، والذي تم فيه تقاسم الثروة والسلطة بين الشمال والجنوب من خلال دستور علماني مؤقت يكون فيه جون غارانغ، المسيحي غير العربي، والذي عاد للخرطوم بعد 22 عاما من الغياب القسري، نائبا أول لرئيس الجمهورية العربي المسلم، بسلطات واسعةِ كما أن بإمكانه، في غياب أو عجز رئيس الجمهورية، حكم السودان بموجب الدستور، وهذه أول سابقة في التاريخ الحديث التي يصبح فيها مواطن غير عربي وغير مسلم رئيسا لدولة عربية ذات غالبية مسلمة!
إن العلمانية التي لم يتردد الكثير من 'فلاسفتنا' المحليين من نعتها بأقبح الأوصاف وتسطير مقالات الذم القبيح في حقها وتأليف الكثير من الكتب في نقدها، هي التي وفرت الأرضية الصالحة لحقن دماء ملايين المسلمين وغيرهم، ونتمنى أن يتعلم أعداء الحرية والتقدم في بلادنا من تجربة السودان الشيء الكثير، وان يدركوا أن زمن فرض أفكارنا ومعتقداتنا على الآخرين بقوة السلاح، أو بغير ذلك، قد ولى إلى الأبد.