الجصاني وأنا
التقيت بالسيد الجصاني، رجل الأعمال والمعارض العراقي، في منتصف الثمانينات في مدينة لندن، حيث كنا نعيش ونعمل هناك في ذلك الوقتِ وفي احد اللقاءات، وأثناء اشتداد الحوار بيننا وبين جمع آخر من العرب المقيمين في لندن، وجه السيد الجصاني الاتهام لنا، نحن أهل الخليج، والكويت بالذات بأننا السبب وراء إطالة أمد تلك الحرب العبثية التي كانت تدور رحاها في ذلك الوقت بين العراق وايرانِ وقال ان أرواح الجنود والمدنيين الابرياء الذين سقطوا قتلى وجرحى في تلك الحرب سوف لن تغفر لنا ما قدمناه للعراق من مساعدات ومعونات مالية ولوجستية، ساهمت، في رأيه، في اطالة أمد تلك الحرب ووقوع اكثر من مليون بين قتيل وجريح من الطرفين فيهاِ اضافة الى دور دولنا غير المباشر في تشجيع الطرف المعتدي على البدء بتلك الحرب، لثقته بأن هناك من سيقف معه، إما خوفا ورهبة منه أو بسبب ما انتابها من خشية الاكتواء بنار سياسة 'تصدير الثورة' التي انتهجتها الحكومة الايرانية وقتها!.
ما رأيناه في الاسبوعين الأخيرين على شاشات التلفزيون من مسيرات وتظاهرات صاخبة في مختلف العواصم الشقيقة والصديقة، وما شاهدناه وسمعناه من خلال مختلف المحطات الفضائية العربية من محاولات رخيصة تهدف الى تأجيج مشاعر العامة، وما أبدته تلك المحطات من حماسة منقطعة النظير وتأييد عارم لصدام وحكمه وحكومته، ذكرني بما سبق أن قاله لي السيد الجصاني في منتصف الثمانينات بخصوص دور مساعداتنا المالية وتأييدنا في إطالة أمد الحرب العراقية الايرانية، وفي وقوع المزيد من الخسائر في الأرواح والممتلكات!.
فالشعارات التي رفعت في عشرات المسيرات، ولغة خطاب كافة القنوات الفضائية العربية، ومسؤوليها، بدون استثناء، ساهمت بطريقة مباشرة، ليس فقط في تأجيج الشارع العربي وتأليبه على الكويت وعلى جيوش الحلفاء التي قدمت لتحرير العراق من حاكمه الطاغية، بل خلقت انطباعا لدى القيادة العراقية، المسكونة بجنون العظمة وبخرافة القوة القومية، بان الشارع والحكومات العربية ستهب للوقوف معها، وأن تلك التظاهرات والمسيرات، التي رفعت فيها الآلاف من صور صدام، سوف يكون لها أعظم الاثر على نفسية المقاتل العراقي، وأنها ستدفعه إلى الاستبسال في الدفاع عن وطنه، مما سيؤدي الى ايقاع آلاف الضحايا بين صفوف 'أعدائهم' من قوات الحلفاء!
وإن تحقق ذلك فانه كفيل بتأجيج الرأي العام العالمي، والاميركي بالذات، الذي سيطالب حكومته بانهاء الحرب والخروج من المستنقع العراقي! وحيث ان ذلك كان محض خيال، وتصورا مريضا، ولم يحدث منه شيء على أرض الواقعِ وحيث ان الجميع كان يعرف منذ اليوم الأول الفارق الخرافي والمخيف بين كل ما تمثله قوات التحالف من تقدم بشري وتكنولوجي وكل ما تمثله القوات والقيادة العراقية من تخلف مبك، فان أي تأييد صدر من أي حكومة او قناة فضائية او اي وسيلة إعلام اخرى للنظام العراقي ساهم بطريقة مباشرة في هدم العراق وتحطيم بنيته الفوقية والتحتية، والتسبب في وقوع المئات من الضحايا من الشعب العراقي، وهي كلها خسائر فادحة كان من الممكن تفاديها لو كانت لدى شعوبنا ذرة من المنطق!.