القرية الوادعة
كنت ابهر دائما، وانا صغير، بصور الطبيعة الرائعة في جبال اوروبا التي كانت تحملها مفكرات الحائط التي كانت، ولا تزال، الكثير من الشركات تقوم بتوزيعها كنوع من الدعاية لمنتجاتهاِ وكنت احرص كذلك وقتها على ارسال صور 'البوست كارد' التي تبين تلك الطبيعة الخلابة الى الاهل والاصدقاء كلما سافرت الى اوروبا او اميركاِ ولا تزال تلك المناظر الرائعة تخلب لبي الى اليومِ وكنت دائما اغبط اهالي وسكان تلك المدن والقرى الجبلية على ما هم فيه من سعادة وهناء عيش بسبب طبيعة بلادهم التي تشبه اوصاف النعيم.
في هذه الايام، وبفضل تغطية شبكة 'سي ان ان' الاخبارية، اصبحت 'استمتع'، وبأسى واضح وحزن عميق، بمشاهدة المناظر الجميلة لقرى جبلية تغفو على جوانب جبال خضراء مزروعة بمجموعة من البيوت الصغيرة التي تغطي قوالب القرميد الحمراء اسطح مبانيها البيضاء والتي تتنقل بينها الابقار بكسل وتثاقل واضحين في طريقها للحقول التي تمتد على مدى البصر، ورنين الاجراس المعلقة برقابها يسمع من بعيد.
***
فجأة تظهر على الشاشة الصغيرة دبابة هنا ومدفع هناك يطلقان حمم قذائفهما على تلك القرى الوادعة موقظة اهاليها من جميل سباتهم وعميق احلامهمِ ثم تنتقل كاميرا التلفزيون للجانب الآخر حيث ترينا قوافل المهجرين من سكان هذه القرية او تلك المدينة الصغيرة وهم يجبرون على ترك بيوتهمِ وتسمع بكاء الاطفال هنا ونحيب العجائز هناك، وترى الدموع تملأ مآقي النساء الثكلى وكبار السن من الرجالِ وتطول القوافل ويكثر الجمع وتبدأ خيام معسكر اللاجئين بالظهور كالفطر البري، وتبدأ مأساة انسانية جديدة لمجموعة كبيرة فقدت الاهل والوطن والمأوى والمورد والحقل والمدرسة والمستشفى والطمأنينة، ربما الى الابد!!
***
لكي نعرف ما يحدث الآن في مقدونيا، او مسادونيا، مسقط رأس الاسكندر الاكبر، والتي كانت الى فترة قريبة احدى جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي، فما علينا الا قراءة ما حدث قبلها في البوسنة والهرسك ثم في الشيشان، وما حدث مؤخرا، ولا يزال، في كوسوفو! وسترى ان اصابع الاتهام تتجه بشكل او بآخر الى اموال وجماعات وجمعيات منا وفينا دأبت منذ فترة على تأجيج عواطف الاقليات من مواطني تلك الدول وتضخيم مشاعر ومسائل التفرقة الدينية بينهم وتشجيع حركاتهم الانفصاليةِ لقد تدخلت 'الحكمة' الغربية واستطاعت لجم الغوغائية والعصبية الدينية المتطرفة في البوسنة والهرسك، ربما مؤقتاِ وتدخلت القوى الغربية نفسها مرة اخرى في كوسوفو واستطاعت ان تفرض هدوءا مؤقتا فيهاِ ولكن اين نهاية المطاف، ومتى يتوقف استغلال هذه الجماعات لضعف نفوس البعض في تلك الدول؟ ومتى يتوقف مسلسل هدم البيوت وخراب الاوطان وقطع الارزاق وتشريد الملايين لمجرد ارضاء نزوة هذا المتعصب او ذلك المهووس؟.
أحمد الصراف