أكتب لمن يفهم
أستغرب كثيراً تحسر البعض على أنظمة قمعية سابقة، بحجة أن أوضاع دولهم قد ساءت كثيراً وأصبحت جحيماً لا يطاق بعد أن غادرها زعماء تلك الأنظمة من أمثال صدام ومبارك وبن علي والقذافي! والمرء يتفهم تحسر من خسروا مادياً ونفوذاً من الأنظمة السابقة، ويتفهم وجهات نظر البسطاء في هذا العالم منها، والذين لا ينشدون غير الاستقرار، ولو كان مزيفاً ومؤقتاً! ولكن ما عذر من يصفون أنفسهم بالمتعلمين والمثقفين؟ فكيف يسمح هؤلاء لأنفسهم مقارنة نظام صدام بنظام المالكي مثلاً، مع كل سيئات الأخير وأخطائه القاتلة وانعدام الأمن والأمان في كل ركن من العراق؟ وكيف يمكن مقارنة نظامي القذافي ومبارك ومن لف لفهما من الدكتاتوريين، بالأنظمة الحالية لهذه الدول؟ جميل أن ينسى الإنسان إساءات الغير له، وينطلق في مسار حياته، ولكن كيف يمكن أن ننسى، للعبرة والتاريخ على الأقل، منظر صدام والسيجار في فمه، في أكبر اجتماع لحزب البعث وأركانه ترأسه فور «استيلائه» على السلطة، ونظرات الموت الباردة تنطلق من عينيه الميتتين، وهو يستمع إلى أسماء من طالب بإعدامهم من رفاق الطريق؟ وكيف يمكن أن ننسى عدد من تورط بقتلهم بيديه، هذا غير مئات الآلاف الذين قتلوا بأيدي أجهزته السرية والعلنية؟ أين ذهبت نخبة العراق من علماء وفنانين وأساتذة ومبدعين، الذين حشرهم صدام والقذافي في ناقلات لا تصلح لنقل الحيوانات، ليلاقوا مصيرهم المؤلم؟ وكيف ننسى أن بعض هؤلاء تجاوزت فترات حكمهم الثلاثين عاماً دون أن يفكروا يوماً في تطبيق أي مبدأ ديموقراطي أو يعترفوا بكرامة مواطنيهم أو بالرقابة على أي من أعمالهم، وتمادوا في تخريب النفوس والذمم وقتل كبرياء شعوبهم سنة وراء أخرى، بحيث أصبح الأخ يشك في أخيه، والابن يرتعب من أبيه، وعندما أزيح هؤلاء، قتلاً أو سجناً، وجاءت من بعدهم أنظمة تحبو، اتهمها هؤلاء «المثقفون» بالعجز والتخلف، وكأن ما ورثته من تركة من سبقها لم يكن أكثر من لعبة أطفال مكسورة، وليس شعباً كسير النفس والخاطر يشعر بالمذلة والاندحار، خائفاً فاقداً السيطرة حتى على أبسط احتياجاته البيولوجية بمجرد وجوده بحضرة الزعيم، فاقداً لكل متطلبات الكرامة والإنسانية، بعد أن شاهدوا بأم أعينهم كيف سحلت أجساد أبنائهم وآبائهم وأصدقائهم وأهاليهم أمامهم خلف مركبات السلطة، وضحكات القتلة تتعالى منتشية. كما أن صدام وغيره من طغاة لم يتمكنوا من الاستمرار في الحكم كل ذلك الوقت لو لم يقوموا بالتخلص، سحقاً ودهساً وحرقاً وتذويباً بالأسيد، لكل من امتلك كرامة وعارضهم، أو علماً واختلف معهم، أو بصراً فنظر إليهم.
ألا يعرف هؤلاء المتباكون على الأنظمة القمعية أن قادتها، الذين حكموا شعوبهم لعقود بالحديد والأسيد والنار، هم السبب فيما وصلت إليه حال أوطانهم الآن؟ كيف يمكن أن نصدق أن مبارك بريء من تهمة إذلال الشعب المصري وهو الذي كتم على أنفاسه لأكثر من ثلاثين عاماً؟ أو أن القذافي الحقير وصدام الأكثر حقارة كانا يبنيان وطناً، ولم يترك أعداؤهما والاستعمار والصهيونية الفرصة لهما لإكمال مشاريعهما «الحضارية»؟!
عندما كنت في أثينا قبل أيام اختلفت مع سائق سيارة أجرة على أمر ما. وكنت أحاول أن أبين له خطأه، وحيث إنني كنت عاجزاً عن رفعه لمستواي «اللغوي» والتحدث بلغة عالمية مشتركة، ولعجزي عن فهم لغته التي لا يتحدث بها الكثيرون، فقد اضطررت إلى النزول لمستواه، مجازاً، ومخاطبته بالإشارة. ولو شاهدنا أحد ونحن نتجادل في السيارة بكلمات وإشارات غريبة ولا يعرف الأول ما يقصد الثاني، لما تردد في الضحك علينا ووصفنا بالجهل، إن لم يكن بالجنون. وبالتالي، فإن مناقشة هؤلاء المتحسرين على الأنظمة القديمة يعني الاضطرار إلى النزول لمستواهم. وهذا ما لا وقت لدينا له، بعد أن انتهينا من كتابة هذا المقال.
***
• ملاحظة: بثت «كونا» خبراً، نشر في جميع الصحف، عن فوز فتاة كويتية برئاسة المركز الأوروبي للتحكيم الدولي بالاتحاد الأوروبي، وذلك خلال اجتماع عقد في الدوحة (!!) وهذا خبر لا معنى له ولا علاقة له بالاتحاد الأوروبي، وليس فيه ما يدعو إلى الفخر! وهنا نتمنى على الصحافة التأكد مما يردها مستقبلاً من وكالة الأنباء الكويتية.