العظيم الذي لم يفهمه البعض
يخلط الكثيرون، وكنت أحدهم لما قبل سنوات قليلة، بين التطور البشري وبين نظريات تفسير التطور. فالتطور يشمل جميع الكائنات الحية، وهي عملية مستمرة ولن تنتهي إلا بفناء الجنس على هذا الكوكب، أو غيره. فقد تطورت قدرات البشر العقلية مع الزمن وأصبحت أكثر حدة واستيعابا وبالتالي أغزر إنتاجا. كما تطور البشر شكلا ونشاطا وقوة، وعاما بعد عام يقوم أبطال الألعاب الأولمبية بكسر الأرقام القياسية من دون أن يكون هناك سقف لتقدم الإنسان رياضيا وعلميا، وسبب ذلك يعود بالدرجة الأولى الى تطور العملية الغذائية والعيش في بيئة صحية. ولو نظرنا للآثار الجانبية لمادة اللكتوز الموجودة في الحليب مثلا لوجدنا ان شعوبا كثيرة، في آسيا بالذات، لا تستهلك الحليب، ومنتجات الألبان بنفس الكميات التي تستهلكها شعوب أوروبا واميركا، والسبب يعود إلى أن الجهاز الهضمي لديهم لم يتطور بنفس المقدار عند الأوروبيين، وبالتالي نرى معظم الآسيويين يعانون من حالة تسمى lactose intolerant أي عدم تحمل اللاكتوز أو عدم القدرة على هضم السكر الموجود في الحليب ومنتجات الألبان، وسيمر وقت طويل قبل ان يعتادوا عليه، وهذا هو التطور. وهكذا نرى بوضوح أنها عملية مستمرة، ولكننا نعجز عن ملاحظتها بسبب بطء حركتها وقصر أعمارنا النسبي.
هذا التطور لم تتم ملاحظته من البشرية حتى ما قبل 160 عاما، عندما أصدر العالم الإنكليزي الفذ شارلز داروين كتابه «أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي» والذي يعتبر أحد الأعمال المؤثرة في العلم الحديث وإحدى ركائز علم الأحياء التطوري. حيث قدم فيه داروين نظريته القائلة إن الكائنات تتطور على مر الأجيال.
أثار الكتاب في حينه، ولا يزال، جدلاً بسبب مناقضته لاعتقادات البعض الدينية، وخاصة المسيحية، ولغيرهم، ولكن يجب الاعتراف بأنه لا توجد حتى الآن نظرية علمية قائمة على قواعد راسخة او تفسير عقلاني لظاهرة التطور غير نظرية داروين، ليس فقط لدقتها المتناهية، بل لقدرتها العجيبة على تفسير نشأة الكائنات وتنوعها. وبالتالي فإن أي هجوم أو تقليل من أهمية النظرية عادة ما يكون سطحيا، وغالبا دينيا أو سياسيا لافتقاده الأدلة الواضحة والبحث العلمي الرصين، خاصة عندما نعلم أن التطور والتغير الى الأفضل والأحسن مستمر، ولا بد من مواكبته والتعايش معه، ورفض المتشددين الدينيين لهذا الأمر لا يغير من الواقع شيئا، فقد فرضت النظرية التطورية نفسها على الدول التي أثرت فينا تاليا بعظيم إنجازاتها واختراعاتها، والذين تقبلوا النظرية الداروينية بقبول شبه تام، بعد أن أيدتها حزمة واسعة من البراهين والاكتشافات العلمية الدقيقة كعلم الجينوم (الخارطة الجينية). وقد احتفل العالم المتقدم أجمع قبل سنوات قليلة بالذكرى المئوية الثانية لميلاد صاحبها، الذي يعتبر واحدا من أعظم علماء البشرية، على مر الزمن. فنظريته في الأساس هي نظرية علمية اعتمدت على المنهج العلمي في البحث استغرقت منه فترة زمنية قاربت العقود الثلاثة، وكان هدفه إعطاء تفسير علمي لهذا الكم الهائل من التنوع والتشابه والاختلاف بين الكائنات الحية ونشأتها، وتأثير المتغيرات البيئية على تطورها عبر ملايين السنين.
وبعيداً عن الفكرة العقائدية والدينية لنشأة الخلق، فإن داروين لم يكن غرضه حتما تحدي الثوابت أو مواجهة الأديان، بل تقديم نظرية علمية عقلية مثلها مثل أية نظرية أخرى، فنظرية نيوتن في الجاذبية مثلا هي التي سهلت للإنسان التحليق في الفضاء وبلوغ ارتفاعات شاهقة، وقربت المسافات وسهلت التنقل والتواصل بين البشر، ولم يكن غرضه تحدي المسلمات الدينية. كما أن نظرية ماكسول (1861) في الموجات الكهرومغناطيسية هي التي مهدت لتقنيات الاتصال اللاسلكي والاذاعي والتلفزيوني والواي فاي وغير ذلك الكثير، ولم يكن هدفه منها تحدي الثوابت، وهكذا الأمر مع بقية علماء العالم الأفذاذ.
أحمد الصراف