أنطون.. والتطوير الإداري!
من الأمور التي لاحظتها مبكراً في حياتي أن أفضل موظف هو من يحتاج أقل قدر من الإشراف على عمله. ففي المصرف الذي كنت أعمل فيه في منتصف الستينات كانت أعلى زيادات للرواتب تمنح ليس فقط لمن يعمل بجد، أو يحسن التعامل مع الزبائن الزملاء، أو الذي يتمتع بخلق حسن، فجميع هذه الأمور مهمة لكن ليست بمثل أهمية «عدم حاجة الموظف لمن يراقبه أو يتابع عمله»!
كما تعلمت أيضاً أن من يؤدي عمله بصورة جيدة وكفاءة عالية يحصل غالباً على زيادات رواتب عالية لكن مقابل ذلك لا تتم عمداً ترقيته، لكي يستمر في أداء ما هو جيد فيه، وكان زميلي في البنك أنطون نفاع الذي كان يدير قسم الكفالات أحد هؤلاء! فقد كان بمفرده يشكل قسماً كاملاً، فكان يتسلم الكفالة من العميل، ويعيد طباعتها على الآلة الكاتبة، ويتأكد من التسهيلات الممنوحة للعميل ويدقق تفاصيلها، ويتأكد من قانونيتها وصحة ما دُوِّن بها من بيانات، ومن ثم يحصل موافقة الإدارة عليها وتوقيعها من المديرين، وإصدارها، ومن ثم تسلميها للعميل خلال أقصر فترة. وكان قسم الكفالات أكثر أقسام البنك إيراداً، وأقلها تكلفة. واستمر أنطون في أداء العمل نفسه حتى ترك البنك بعد ثلاثين عاماً!
تذكرت كل ذلك وأنا أقرأ طرفةً تتعلق بالكيفية التي يتضخم فيها الجهاز الإداري، خاصة في الدول المتخلفة والمتخمة بالأموال.
فقد لاحظ مدير «معسكر حشرات» أن نملة تتجه فجر كل يوم إلى عملها وتؤديه بنشاط وهمة وسعادة، فتنتج وتنجز الكثير، وتعود إلى البيت في نهاية النهار وهي مبتسمة. أعجب المدير بكفاءتها اللامتناهية، وقال لنفسه: «إن كانت النملة تعمل بكل هذه الطاقة من دون إشراف فلا شك أن إنتاجيتها ستكون أعلى إن تم تعيين من يشرف عليها ويرشدها؟! وهنا قام بتعيين الصرصور مشرفاً عاماً.
اكتشف الصرصور في يوم عمله الأول أن النملة ليست بحاجة لأي إشراف، ولكي لا يفقد وظيفته اضطر إلى البدء بوضع نظام لحضور النملة وانصرافها، وتوظيف ابنة عمه الصرصورة للعمل سكرتيرة لمسك جدول الحضور والغياب وكتابة التقارير.
كما حصل بعدها على موافقة الإدارة لتعيين العنكبوت للإشراف على أرشيف حفظ سجلات الحضور والغياب، ومراقبة المكالمات الهاتفية.
ابتهج المدير بما حصل من تطوير، واقترح إضافة رسوم بيانية على التقارير توضح الانحرافات في ساعات الحضور والانصراف، وبيان علاقتها بزيادة الإنتاجية أو نقصها، ومن ثم تحليل المعطيات، وعرضها عليه في الاجتماع المقبل.
مع زيادة العمل اضطر الصرصور إلى تطوير نظام التسجيل فقام بشراء جهاز كمبيوتر، وطابعة ليزر، وتعيين الذبابة لإدارة قسم نظم المعلومات.
لم يعجب النملة المجتهدة ما جرى إدخاله من نظام إداري مربك، وكثرة التدخلات في عملها، والرقابة على حضورها وانصرافها، وكثرة استدعائها للاجتماعات، ووجدت في كل ذلك مضيعة للوقت والجهد، فقامت برفع شكواها إلى المدير، فقام هذا بتغيير آلية العمل في إدارة النملة، وفصل الصرصور وعين مكانه السيدة الجرادة، الخبيرة في التطوير.
أصدرت الجرادة قرارا بتغيير أثاث المكتب وتعيين ابنة أختها «اليخاخة» مساعدة شخصية لها لشؤون إستراتيجيات التطوير.
مع نهاية العام اكتشف المدير زيادة كبيرة في تكلفة التشغيل، وهبوط الإنتاج، وطالب بتقليص النفقات، وعيّن البومة مستشاراً مالياً لدراسة الوضع، فرفعت البومة تقريرها الذي أوصى بتقليص العمالة الزائدة عن طريق فصل النملة!
وهذا ما حصل في جهات حكومية عدة.