وهم عبد الخالق واللحظة الخليجية
يقول الأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبد الله في كتابه «لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر» التالي:
… لن يبحث أي مراقب كثيرا في تأمله للواقع العربي الراهن ليهتدي إلى الدور الأساسي والمفصلي الذي باتت تلعبه دول الخليج في تحديد مصائر ومسارات بلدان المنطقة، بعد أن انتقل مركز الثقل الأساسي نحوها ليكون مفترق العرب في المال والاقتصاد كما في السياسة والأمن والدفاع. وعلى الرغم من أن هذا التحوّل بات ناجزا، فان الدراسات حوله ما زالت في استنتاج نهاية الأمر بحيث تبدو «اللحظة الخليجية» التعبير الأدق والأسلم للخوض في غمار التجربة الخليجية الحديثة.
ويعيد عبد الخالق، كما ورد في تعليق لأحد الباحثين، اكتشاف هذا التعبير الذي راج في السنوات الأخيرة ويعيد صوغه في كتابه الصادر حديثا، لواقع أمر تفرضه دول مجلس التعاون الخليجي على المنطقة والعالم… وكيف أن منطقة الخليج، وبعد غياب طويل، تستعيد «نفوذها وتجاهر بحضورها العالمي»! بعد أن اصبحت تخوض غمار مغامرة لأول مرة بحيث تجد نفسها مسؤولة عن مصير «الأمة»، وهو أمر لطالما كان لدول عربية أخرى باع طويل في الزعم بالدفاع عنه. وكيف أن الثقل الاقتصادي والدبلوماسي والإعلامي العربي قد انتقل لها بعد أن كان هذا الثقل متموضعا في مصر وسوريا والعراق. ويلخص الكاتب هذا الثقل في وجود انظمة حكم مستقرة، وقدرات مالية ضخمة.
***
لا أدري إن كان هذا الموضوع يستحق بالفعل وضع كتاب من 250 صفحة عنه، ولكنه في جميع الأحوال يمتلئ بالوهم والاعتماد على أسس ومعايير غير ثابتة، ولا يمكن الاعتماد عليها في بناء دول حضارية متقدمة راسخة الأسس، متينة قابلة لاستيعاب المتغيرات في العالم، ومكتفية، إلى حد ما، ذاتيا، وبإمكانها الدفاع عن نفسها ضد أي من القوى الإقليمية الأكبر.
إن الحضارة والريادة والتقدم لا تقاس بسياسات مستقرة وأرصدة مالية ضخمة، بل بمجموعة متعددة ومترابطة ومعقدة من الأمور. فالدول التي يدعي الكاتب أن بساط الريادة سحب منها يمكنها، بقدر من الجهد الشعبي والدعم المالي والاستقرار السياسي، أن تستعيد سابق أدوارها، ولا أرى مطلقا أن الدول الخليجية لديها الإمكانات أو القدرات في أن تصبح يوما ذات ثقل بخلاف ما تمتلكه من طاقة نفطية وارصدة نقدية، وهذه قابلة للنضوب، وبعدها سنعود لخيامنا، وهذا أمر لا يمكن أن يحدث لدول مثل مصر والعراق وسوريا، التي سحب البساط مؤقتا من تحت اقدامها!
نحن لسنا، ولم نكن يوما، جزءا من صراع حضارات هنتنغتون، ولم نخطر على بال فوكوياما عندما تنبأ بـ «نهاية التاريخ»، وهذا ليس جلدا للذات، بل هو تسطير لواقع نعيشه كل يوم، فكوننا اصبحنا مركز ثقل مؤقتا في السياسية الإقليمية، مع تراجع واضح لدور الدول العربية الأكبر والأهم، تاريخيا، لا يعني أننا أصبحنا مركز اتخاذ القرار ومهد الحضارة وأمل الأمة، بل هي مرحلة مؤقتة و«حتعدي». فغالبية الدول الخليجية مصابة بخلل خطير في تركيبتها السكانية، وتواضع مخرجاتها التعليمية، نوعا وكيفا، وبعزوف مواطنيها عن القيام بأي عمل يدوي، وبفقرها البحثي، وما تأكله رواتب موظفيها من ثرواتها، وهي بالتالي غير مؤهلة للعب أي دور على المسرح العالمي بخلاف كونها مخزن نفط ورصيدا في مصرف. وزيارة واحدة لمستشفيات دولنا ولمحطات تحلية المياه فيها، ولمصانعها، ولمصافي بترولها، ولجنسيات قائدي أساطيلها البحرية والبرية والجوية، وللجيوش البشرية التي تقوم بصيانتها، ولمئات الأنشطة الأخرى ستظهر لنا بجلاء «كعب أخيل»، أو نقطة الضعف الرهيبة، في هذه الدول وفقرها الحضاري القريب من العدم، والذي يحتاج لعلاج سريع لا يمكن تحقيقه بغير ثورة تعليمية وأخلاقية وتربوية كاملة وشاملة تنسف كل الإرث القديم بمفاهيم حضارية جديدة، وإلى ذلك الحين نبقى نفطا ودولارات في عيون الغير!