كارثة «عافية»
هناك فوارق اقتصادية وثقافية واجتماعية كبيرة بين مجتمعات الدول المتقدمة والأخرى النامية والمتخلفة، فالأخيرة أكثر التزاماً بالطقوس الدينية واهتماماً بما يصاحب ذلك من مظاهر، والمبالغة في تكريم من يؤديها، والمبالغة أكثر في معاداة من يتقاعس عن أدائها، ولا شيء بعدها يهم. أما في المجتمعات المتقدمة فإننا نجد أفرادها أكثر التزاما وشعورا بالمسؤولية، وحرصا على سداد الضرائب، وإصرارا على المشاركة في العملية السياسية، ومحاسبة ممثليهم في البرلمان، وأكثر التزاما بساعات العمل، والوقوف في الطابور، والمحافظة على البيئة والممتلكات العامة والموارد الطبيعية وغير ذلك. ومن الطبيعي توقع عكس ذلك في المجتمعات المتخلفة، وعدم تقدير أو احترام كل ما يعطى من الدولة مجانا، فإساءة استخدام المجاني أو «البلاش» هي القاعدة! ومؤخرا حصل المتقاعدون في الكويت على خدمة العلاج الطبي المجاني من خلال برنامج «عافية» في أي من المستشفيات أو المراكز الطبية الخاصة. ولكن تقديم هذه الخدمة «المجانية» أثر في أخلاق نسبة كبيرة من هؤلاء، وتسبب في تدهور صحة البعض الآخر منهم. فمن الظواهر المعروفة أن أعداد المرضى في اي منطقة نائية لا يوجد بها مستشفى تتزايد فجأة مع افتتاح مستشفى جديد. فقبلها كان الأهالي يؤجلون زيارة المستشفى الى صباح اليوم التالي، إن أصيبوا بوعكة صحية، بسبب بعد المسافة وصعوبة الوصول. وفي أحيان كثيرة تزول آلامهم في صباح اليوم التالي. ولكن وجود المستشفى قريبا منهم شجع الكثيرين للهرولة له عند شعورهم بأقل ألم! المثال أعلاه ينطبق على بعض المتقاعدين المستفيدين من خدمة عافية. فقد كانت نسبة كبيرة من هؤلاء تتردد في الذهاب إلى الطبيب الحكومي، لسبب أو لآخر، ولكن ما ان بدأ العمل بنظام عافية حتى أصبحت زيارة هؤلاء المتقاعدين للمستشفيات الخاصة واجباً أو رحلة شبه يومية، فقط لأنه مجاني! كما تسببت الزيادة الكبيرة في أعداد المرضى، ونسبة منهم ليسوا بمرضى، ولا حاجة لهم لتلقي العلاج، في فتح شهية الكثير من الأطباء، وبينهم استشاريون، لوصف أدوية أو علاجات أو فحوصات دقيقة قد لا يكون المريض بحاجة لها. وتجاوبت بعض المراكز الطبية المعروفة مع الموجة الاستغلالية، وأصبح صرف الأدوية فيها أمرا مربحا، بالرغم من عدم الحاجة الماسة لها، وبالتالي التسبب في الإضرار بصحة هؤلاء بقصد أو بغيره، بغية تحقيق ربح سريع وسهل. كما أصبح أمرا روتينيا إرسال المرضى لإجراء فحوصات الرنين المغناطيسي mri والاشعة المقطعية ctc، وأشعة x-ray وغيرها، بالرغم من خطورة تكرار التعرض لها، لآثارها الجانبية السيئة. كما أصبح أمراً عادياً طلب الاستشاري من مراجعيه في المستشفى الحكومي زيارته في عيادته الخاصة، وبسبب ذلك أصبح الانتظار في عيادات هؤلاء متعباً بالفعل بسبب ضغوط بعض المتقاعدين الذين يعتقدون أن عليهم «امتصاص» آخر دينار مخصص لهم في بطاقة عافية، طالما أن العلاج مجاني، غير مدركين مساوئ الفحوصات الطبية المتكررة، ومضار التواجد بين عدد كبير من المرضى، وخطورة التعرض لإشعاعات الأجهزة الطبية، واحتمال استنزافهم لما في بطاقاتهم من رصيد قد يحتاجون له مستقبلا. إن وسائل الإعلام الرسمية وشركة عافية مطالبة بتكثيف جهودها وتوعية المواطنين، والمتقاعدين بشكل خاص، من مخاطر العلاج غير المبرر، وتأثير ذلك على المال العام. فكلما زادت مطالبات المتقاعدين زادت تكلفة التأمين مستقبلا.
أحمد الصراف