جريمة الإحالة
بلغتُ الخامسة والسبعين، أو كدت، ومع هذا لم اشعر يوما، دون مبالغة، بمثل هذا الشعور من توقّد الذهن وإدراك كامل لما يجري حولي واستمتاع تام بكل مباهج الحياة وجمالياتها، وهذا ما لم يتوافر لي من قبل. ولم أكن حقيقة بحاجة لأن أشرك القارئ بهذا الأمر الشخصي لولا وقوع الأمرين التاليين: الأول: قراءتي مؤخرا فقط لبحث نشر عام 2018 في دورية new england journal of medicine بين الأمور التالية: إن الشركات العالمية تقوم بلا تردد بتوظيف من بلغوا الخمسين من العمر، فما فوق، لتولي المناصب العليا وتحمّل المسؤولية، لأنها تؤمن بأن هؤلاء أكثر إنتاجية من الذين تقل أعمارهم عن الخمسين. كما بيّنت الدراسة الأميركية المكثّفة بأن مرحلة العمر الأكثر إنتاجية في حياة الرجل والمرأة، على الإطلاق، هي التي تقع ما بين الستين والسبعين. أما المرحلة التالية في الأفضلية فهي بين السبعين والثمانين. وهذه تنطبق علي شخصيا، وبالتالي أنا في أواخر سني إنتاجيتي، وإن العد التنازلي قد بدأ، ولكني سألغي ذلك واستمر في العمل. أما المرحلة الثالثة في الأهمية من حيث الإنتاجية فهي بين الخمسين والستين. ووردت في البحث كذلك بيانات طريفة أخرى، حيث تبيّن أن متوسط عمر الفائزين بجوائز نوبل المرموقة 62 عاما. كما يبلغ متوسط عمر الرئيس التنفيذي لأكبر 500 شركة في العالم 63 عاما، وفق مجلة fortune، كما يبلغ متوسط عمر رعاة أكبر مئة كنيسة في أميركا 71 عاما. ويبلغ معدل أعمار باباوات الفاتيكان 76 عاما. وهذا يخبرنا بطريقة أو بأخرى بأن أفضل سنوات الحياة هي التي بين الستين والثمانين، ففي الستين نصل الى الذروة في الإنتاجية، وتستمر معنا حتى الثمانين. ومن كان بين 60 و70 أو 70 و80 فإنهم في أفضل سنوات حياتهم، وعليهم أن يعرفوا ذلك جيدا ويحقّقوا الأفضل لأنفسهم وأحبتهم. ثانيا: يبدو ان أحد فطاحل مستشاري الحكومة، أو أحد الوزراء وقع نظره على هذه الدراسة، فقرر، من منطلق النحاسة، أن يفعل العكس، حيث قام الإيعاز لعدد من الوزراء بالتخلّص من الذين تجاوزوا الخمسين والستين من العمر، بعد خدمة ثلاثين عاما، وإحالتهم «غصباً عنهم» وهم في قمة عطائهم للتقاعد القسري. والسبب ربما لأن هناك ضغوطا من النواب «إياهم» على الوزراء لتوظيف أبنائهم وناخبيهم. وحيث ان ديوان الخدمة المدنية يمنع التوظيف في وظائف ووزارات معينة، فبالتالي كان لا بد من تفتق ذهن ذلك الخبير الحكومي، او الوزير على فكرة التخلّص من ضغوط النواب، من خلال تفريغ الجهاز الحكومي من خيرة عناصره، بتطبيق التسريح القسري عن العمل وتوظيف صبية بلا فهم ولا خبرة ولا نضج في أماكنهم. كما أصبحنا نشاهد تعيينات «براشوتية» غير مفهومة، وهذه ستساهم حتما في تردّي الأداء الحكومي، بسبب الاضطرار للاعتماد أكثر على رأي الخبير الوافد، بعد أن جرى التخلص من الخبير المحلي، الذي قد لا يكون غالبا في خبرة المستشار، ولكن كان وجوده بلا شك يخفف من الضغوط عليه. إن الإحالة القسرية الى التقاعد جريمة في حق هؤلاء والوطن، ومن حق المظلوم اللجوء الى القضاء.
أحمد الصراف