الاتحاد و«ديوان السبيل»
يقول صديق عاصر العمل الخيري لعقود وعرف الكثير من خفاياه، إن تأسيس اتحاد للجمعيات والمبرات الخيرية جاء للاستفادة من وضع معين، فلا يعقل أن الهدف منه الدفاع عن كل تصرفات أعضائه، البالغ عددهم 59 جمعية، في السراء والضراء! ويستطرد أنه على استعداد لقص «يد شيبوب اليمنى» إن كان هناك من يصدق أن «جسدا خيريا» بهذا العدد وهذا الحجم، وبكل ما لدى أعضائه من مليارات، وخضوع غالبيتهم لأحزاب دينية مسيسة، يمكن ان يدار بأمانة واقتدار كامل من خلال المراقبة الذاتية، وترك أمر الإشراف ومراقبة كل هذه الجمعيات لاثنين أو ثلاثة من موظفي وزارة الشؤون ومكتب تدقيق الحسابات؟ فمن المجنون الذي يصدق هذه الترهات، ولم كل هذه الشراسة في منح الجمعيات الخيرية مثل هذه الحصانة؟ يقول الصديق إن الجمعيات والمبرات نفسها ربما لم تحلم يوما بما اقترحه الاتحاد، وإن مبادرة الاتحاد ذكرته بمسلسل شهير عرض قبل سنوات في رمضان، للمبدع الراحل عبدالحسين بعنوان «ديوان السبيل»، الذي دارت أحداثه حول رجل فقير يتطوع بحمل كوز ماء على ظهره، وسقي الناس منه مجانا، فيُعجب رئيس المدينة بنشاطه الخيري فيأمر بإنشاء سبيل له ليقوم بتوزيع الماء من خلاله من دون مشقة. تتطوّر أحداث المسلسل ويصبح لهذا السبيل مسؤول في ديوان رئيس المدينة، يتابع أموره يساعده جيش من الموظفين والسكرتارية وميزانية وتبرعات، ويتوسع تاليا بفتح فروع له في القرى والمدن الأخرى، ليتضخم جهازه ويصبح له صوت ونفوذ! اتحاد «الجمعيات والمبرات الخيرية» لا يختلف عن ديوان السبيل، فلديه الآن 60 عضوا، وأمين عام ومجلس إدارة ومركز رئيسي في السالمية، وقام مؤخرا بافتتاح باكورة فروعه في منطقة الشهداء! فما حاجة مثل هذا الاتحاد لفروع؟ في مقال رائع كتبه المحامي والزميل بسام العسعوسي قال: كفل الإسلام حرية الرأي والفكر. وكثيراً ما كان المسلمون ينتقدون الحكام والقضاة والولاة في الأمصار المختلفة، وكان هؤلاء يسمعون ويتقبّلون النقد بلا غضاضة، فلم أصبح العمل الخيري بنظر البعض مقدسا بحيث يجب ألا يخضع لرقابة الرأي العام؟ وأضاف أنه يتعيّن علينا التفرقة بين الجمعيات الخيرية الحقيقية والجمعيات الحزبية، مع ضرورة الإشارة إلى أن القائمين على تلك الجمعيات أولاً وأخيراً بشر غير معصومين من الخطأ، ومن حق الناس أن يطمئنوا إلى أين تذهب تبرّعاتهم، وهذا يحقّق توازناً حقيقياً، ويحمي أمن المجتمع والدولة. وبالتالي كان مثيرا للاستغراب لجوء اتحاد الجمعيات الخيرية إلى الشكاوى الجزائية، مما يشكّل خروجاً سافراً عن تعاليم الإسلام السمحة؛ فالمفروض بالجمعيات أنها «إسلامية» الهوية، وليس تخويف الناس وإرهابهم وملاحقتهم جزائياً، فهذا سيؤدي لتنفيرهم من التبرع، فمن غير المعقول الافتراض أن كل نقد أو رأي يقصد به الازدراء ولا يلزم أن يلاقي الفكر والرأي ذاتهما فكر القائمين على العمل الخيري ورأيهم؛ ففي ذلك حجر على العقول ومصادرة للآراء. كما أن التدين المغشوش قد يكون أنكى بالأمم من الإلحاد الصارخ. وعلى مسؤولي الاتحاد، والجمعيات المتشددة التي تحركه، أن يعلموا أن الأصل هو الحرية، والقيد هو الاستثناء، ويجب ألا يجزعوا من النقد، كما أن القوانين الرادعة أمامهم لمن يسيء للعمل الخيري.
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw