ما أرخص دمك.. أيها الفلسطيني!
يكرر البعض بغباء أو بنية سيئة، أن الصهاينة أجبن خلق الله، وصدّق البعض المقولة، وقد تكون صحيحة أو عكس ذلك، ولكن العبرة بالنتائج! فهؤلاء الجهلة لا يعلمون أن وصف «العدو» بالجبن ليس في مصلحتنا! فكيف استطاعوا، وهم الجبناء، أن يذلوا جيوشنا، وينتصروا علينا ويطردونا من ديارنا، ونحن أضعاف أضعافهم عدداً؟ وماذا كانوا سيفعلون بنا لو كانوا مثلاً أقل جبناً؟ فالمرء عادة يمدح شجاعة من انتصر عليه، وليس الحط من قدره، وهذه أيضاً حكاية أخرى.
***
يبلغ عدد العرب، ودعنا من المسلمين، 400 مليون تقريباً، منهم 350 مليوناً لا يعرفون أين تقع فلسطين ولا هم معنيون بها لانغماسهم لآذانهم في البحث عن لقمة العيش. أما البقية فتعرف لكنها غالبا لا تكترث. وتتبقى مجموعات متناثرة هنا وهناك، بعضها يعرف وغالبيتها تعتقد أنها تعرف، ولكل منها تصوراتها وأفكارها، مع تباينات مواقفها من القضية! ولكن الغالبية ترى أن نقطة ضعف القضية تكمن في تعدد القيادات، وفساد البعض منها، وإصرارها في الوقت نفسه على البقاء كما هي، دون اتحاد، مع استمرار مطالبتها بتدفق دعم «الأشقاء العرب»، المالي والمعنوي.
***
مع شبه تحييد الجانبين العربي والإسلامي في القضية، نجد أن المواجهة أصبحت منحصرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وحيث إن موازين القوى بين الطرفين ليست في مصلحة الفلسطينيين، فأين المخرج؟
***
لا ينكر إلا جاهل وناقص مروءة عظم العذاب الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، وحقهم في وطن حر ومستقل. ويجب ألا يغير هذا الحق أن جزءاً من يهود إسرائيل، بصرف النظر عن عددهم، كانوا يعيشون في فلسطين منذ آلاف السنين، فالخلاف ليس مع هؤلاء، ولكن مع الملايين التي أتت تالياً واستولت على البيت والأرض والبيارة لنفسها.
ولكن حصل ما حصل، وخسر الفلسطينيون الذين وقفت أضعف القوى المحلية خلفهم، وربح اليهود الذين وقفت أعتى القوى الدولية خلفهم، وأخذوا الأرض وسبقوا الزمن وكوّنوا دولة اعترف بها العالم، وبقي الفلسطيني في غالبيته مشرداً معذباً بسبب أخطاء قاتلة ارتكبتها، على مدى عقود، قياداتهم القليلة الخبرة ورفضها لكل الحلول الوسط، وما تحالف حماس مع النظام في إيران وسابق تعلق البعض بأمثال القذافي وصدام إلا مؤشرات على مدى هوان حالهم وقلة حيلتهم. وبالتالي لا بد من العودة إلى الوراء لكي نتعلم من دروس التاريخ، وأن نجد في النهاية مخرجاً لأصحاب الحق، وإنهاء هذا الصراع لمصلحة ملايين الفلسطينيين المحرومين من الوطن والهوية، والكرامة الإنسانية.
***
ما سأكتبه يمثل وجهة نظر شخصية تحتمل الخطأ أكثر مما تحتمل الصواب، فأنا لست طرفاً محايداً، ولا باحثاً ولا عالماً في القضية، لكنني قارئ معني بالأمر منذ كنت في العاشرة من عمري، وتعايشت وتعاطفت مع الفلسطيني، ولا أزال، منذ أكثر من 65 عاماً، فهم جزء من كياني وثقافتي، وأرفض فكرة أن أجلس على الرصيف، أو تحت مكيف هواء البيت وأقول لأصحاب القضية:
اذهبوا وأهلوكم فحاربوا عدوكم، إنا هنا لمنتظرون انتصاركم!
***
من الواضح أنه ليس هناك حل عسكري للقضية، لا في المستقبل المنظور، ولا بعد ذلك، وليس هناك ما يعيب في اللجوء إلى الحل السلمي، وهذا لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع بغير «وحدة قرار» فلسطينية. فطالما بقي الفلسطينيون على تشرذمهم فإن العربدة الإسرائيلية ستستمر، ودم الإنسان الفلسطيني سيراق وإفقاره وتجهيله وتعطيل تعليمه وتعذيبه وتخريب بيته وإتلاف زرعه ستستمر أيضاً.
فمن غير المنطقي توافر قوتين فلسطينيتين على الأرض، لكل منها قيادتها وأهدافها وطموحاتها و«أطماعها»، ونتوقع أن تكون هناك إمكانية عقد اتفاقية سلام مع الجانب الآخر، صاحب الأهداف الواضحة، والصوت الواحد!
فالصراع العربي، أو بالأحرى، الفلسطيني ـــ الإسرائيلي صراع حضاري، وهو لم يكن كذلك في بداياته، لكن الهوة اتسعت مع زيادة اهتمام الإسرائيليين بالعلوم وهجرة آلاف أصحاب الأدمغة «لأرض الميعاد»، وشبه نفور أصحاب الأرض، كعادتنا جميعاً، من قضايا البحث في الأمور الصعبة، وعدم اهتمامنا، ربما حتى اليوم، بأهمية العلوم الحديثة. فقد نجحوا وأبدعوا حيث فشلنا، وأصروا وعملوا على حفظ كرامة مواطنيهم، وحقهم في الحياة، وهذا ما لم نعرفه يوماً، فما لا يقل عن نصف مكونات مجتمعاتنا لا كرامة ولا حقوق لها، غير الفتات.
لقد سبق أن عاش اليهود، الذين كانوا وراء «نهضة إسرائيل» ورقيها العلمي، في بيئة علمانية غير دينية غالباً، وكانت اليهودية هوية أكثر منها ديانة. وهم في غالبيتهم العظمى من المؤمنين بالديموقراطية الغربية التي تقدس العلم والإنسان، في الوقت الذي بقيت فيه مجتمعاتنا أسيرة ثقافتها الدينية، الرافضة للحداثة والمتمسكة بالتراث، فسايروا الزمن وأبدعوا، وجمدنا وتخلفنا.
كما أن «أحلامهم» التي «نرفضها» تطالبهم ببسط سيطرتهم على كامل أرض الميعاد، متناسين في الوقت نفسه أن معتقداتنا تطالبنا ببسط سيطرتنا على العالم أجمع، ثم نستنكر رفض الآخرين لها!
كما جعلتنا موروثاتنا نشعر بالتفوق على الآخر، وهذا ساهم في عدم سعينا لأن نبدع، فلم نفعل ذلك ونحن خير أمة؟
وفي الوقت الذي فكر فيه عتاة يهود أوروبا بأهم الأمور، وسعوا لتأسيس جامعة عبرية على الطراز الغربي الحديث عام 1925، إلا أن ذلك الحدث الحضاري الخطير لم يلقَ إلا عدم الاكتراث الفلسطيني، وتطلب الأمر مرور ثلاثين عاماً، كانت كافية لتجذير الهوة العلمية بين الطرفين، ليكتشف الفلسطينيون أهمية توافر جامعة، فأسسوا «بير زيت»، ولكن قطار التقدم كان قد غادر المحطة.
***
لتحقيق السلام مع إسرائيل يتطلب الأمر، وقبل أي شيء آخر قيادة وطنية علمانية واحدة غير مرتبطة بأي جانب سياسي أو ديني، يكون اختيارها من قبل مكونات الشعب الفلسطيني كافة، وتحت إشراف دولي مباشر. فكل ما يقال عن عدم رغبة إسرائيل في السلام، قول غير مقنع، فليس هناك شعب أو أمة تريد البقاء في حالة حرب إلى الأبد. والإسرائيليون يعلمون بأن الفلسطيني باقٍ إلى الأبد، وليس هناك قوة يمكن أن تفنيه أو تنسيه وطنه، وبالتالي ليس أمامها غير السلام، لكنها بحاجة للتحدث والتفاوض مع طرف واحد يمثل «كل الشعب الفلسطيني»!
خيار السلام هو الوحيد المتاح، فزمن المعجزات قد ولى. ويجب عدم الالتفات للمطالبين «بكل شيء أو لا شيء»، فهؤلاء مجموعة من المزايدين لا أكثر، فالوقت يعمل لمصلحة إسرائيل، وليس من المجدي الانتظار، فلن يأتوا لنا يوماً على ركبهم، صاغرين خانعين، طالبين السماح لهم بالخروج من أرض الميعاد!
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw