إنسانية «تاتا» البارسية

هناك فرق بين تقديس الشيء وعبادته. فالكثير من الناس يعتقدون أن الهنود يعبدون البقر، أو أن المجوس أو الزرادشت، يعبدون النار، والحقيقة أن لا البقرة ولا النار تعبد، بل هي أمور مقدسة لدى أتباعها، لأسباب منطقية كثيرة يؤمنون بها.
***
لا يعرف أصل كلمة «مجوس»، فهي معربة، ولكن غالبية شعوب العالم تعرفهم بـ«الزرادوست» zoroaster (or zarathustra) ويقال ان ديانتهم هي الأقدم، ولا يوجد ما يثبت ذلك. كما يقال ان مختلف الأديان الأخرى أخذت منها الكثير، ولكن لا يوجد أيضا ما يؤكد ذلك بصورة جازمة. ولكن ما هو معروف أن سيارات «مازدا» اليابانية الشهيرة أطلق عليها مؤسسها هذا الاسم تيمنا بإله المجوس الزرادشت «أهورا مازدا»!
***
يُعرف زرادشت الهند بالـ«بارسي parsi»، وهم الذين هاجروا اليها هربا من اضطهاد المسلمين بعد سيطرتهم على بلاد فارس، خاصة في العهد الصفوي، عندما تعرضوا للقتل إن رفضوا التحول القسري للإسلام. كما اصابهم تاليا الكثير من الأذى في عهد ملوك القاجار في القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، والمجموعة الأخيرة تسمى «إيرانيو الهند»، للتفريق بينهم وبين من سبقهم إليها بأكثر من أربعة قرون، وأيضا بسبب روابطهم القوية مع زرادشتيي إيران، وتمسكهم بقوميتهم الإيرانية، مقارنة بالبارسي، الأكثر قربا للهند والهندوسية.
***
يقدر عدد الزرادشتيين في العالم بـ120 ألفا فقط، يعيش أكثر من نصفهم في الهند، وأقوى مجموعاتهم نفوذا ومالا توجد في بومباي، حيث استفادوا من فرص التعلم في مدارس الإرساليات الإنكليزية، وتحولوا مع القرن الـ19، والاستعمار الإنكليزي للعيش على النمط الغربي.

رغم ضآلة أعداد البارسيين في الهند فإنهم لعبوا دورا حيويا في تاريخها الحديث، حيث كانت لهم مثلا مشاركة قوية في تأسيس حزب «المؤتمر الوطني الهندي» مع نهاية القرن التاسع عشر، وهو الحزب الذي حكم الهند طويلا بعد قيادته لحركة الاستقلال. وكان «فيروز غاندي»، زوج «أنديرا غاندي»، ووالد راجيف، من البارسي لكن أبناءه اختاروا الهندوسية تاليا.

كما تصدر البارسيون الثورة الصناعية في الهند، من خلال سلالتي «تاتا» و«غودريج». ويعتبر «جامستجي تاتا» والد الصناعة الهندية الحديثة ومؤسس المعهد الهندي للعلوم، وصاحب فندق «تاج محل»، ومصانع «تاتا» للصلب، ومركبات تاتا الشهيرة، وغير ذلك.
***
مناسبة هذا المقال التعميم الذي صدر عن مؤسسة «تاتا للصلب»، التي تأسست عام 1907، والذي تعهدت فيه برعاية أسر كل العاملين لديها في الصفوف الأمامية، من الذين لاقوا حتفهم أخيرا في جائحة الكورونا، والتكفل بمعيشتهم وعلاجهم وتدريسهم، لسنوات طويلة قادمة. وتصبح المسألة مدعاة للتقدير عندما نعلم بأن عدد العاملين في الشركة، التي تعتبر فرعا من «مجموعة تاتا»، يزيد على 35 ألف موظف وعامل. ونال خبر تبرعها السخي اهتماما في وسائل الإعلام الغربية. كما كان للمجموعة دور كبير في التبرع للحكومة الهندية في حربها ضد الكورونا، هذا بخلاف مئات الملايين التي انفقتها أسرة «تاتا» على التعليم المميز والصحة.

أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top