كرسي الوزارة وكرسي المقهى

لم يكن قد تجاوز الستين بكثير، عندما أحيل إلى التقاعد من الشركة الحكومية المرموقة، خرج وبيده شيك ذهبي بمبلغ كبير، كتعويض، بخلاف ما تجمّع في حسابه من رواتب، إضافة لما ورثه من والده من إرث كبير. غادر كرسي الوزارة الوثير إلى كرسي خشبي في مقهى حديث في أحد المجمعات، حيث يجتمع وأصحابه، ممن سبقوه في التقاعد.

اقترحت عليه زوجته تأسيس شركة تجارية، أو شراء مزرعة، بحيث يمكنهما قضاء وقتهما فيها. رفض الفكرتين، فهو أصلاً لا يحب التجارة، ولا يفقه في الزراعة. بعد نقاش واستشارات وزيارات لمكاتب السفر، قرر القيام برحلة «كروز» وقضاء بضعة أشهر على ظهر سفينة سياحية، لكنه بعد أقل من شهر، شعر بالسأم، فقطع رحلته، بعد أن اختمرت في رأسه فكرة تأسيس مشروع تجاري بصبغة إنسانية «غير ربحية»، واختار لأسباب ثلاثة فكرة بناء ما يشبه الفندق، ليكون مأوى راقياً لكبار السن، بحيث يقضون ما تبقى من حياتهم معززين مكرمين، وأخذ الفكرة من علاقته بوالده، الذي أقعده المرض في البيت لسنوات، قبل وفاته، واضطرار شقيقته للعناية به، بعد وفاة والدتهم، وما تسبب فيه ذلك من رفضها لكل عروض الزواج، وما تسبب فيه وجوده في البيت من محدودية حياتهم الاجتماعية.

وجد قطعة أرض على البحر قريباً من الشاليهات، لكن الجهات المعنية رفضت ترخيصها مأوى للعجزة وكبار السن، على الرغم من حاجة الدولة للمشروع، مع تزايد أعداد كبار السن، الذي يبقون في المستشفيات لسنوات طويلة، ويشغلون أسرِّتها، ويشكلون عبئاً عليها. قرر الاعتماد على نفسه من غير معونة حكومية، ووجد أرضاً مناسبة، واتصل بشركة استشارية لتقوم بدراسة الجدوى، بحيث يكون المشروع خيرياً. تبيّن من الدراسة أن المشروع يتطلب 500 نزيل ليبقى ويستمر بموارده الذاتية!

بعد دراسات وأبحاث، مع إمكان دعم حكومي يتمثل في أرض مستأجرة من الدولة بعقد طويل الأجل، كحال الكثير من المستشفيات الخاصة الجديدة، وتخفيض عدد النزلاء إلى النصف، قرر السير في المشروع، فقام بتأسيس شركة برأسمال ضخم، وتطلب منه ذلك تأجير محل، ودفع الإيجار الشهري، لتنظر الجهات المعنية في طلباته، وحيث إن معاملات الحكومة أصبحت إلكترونية، جبراً، في جزء منها، فقد اضطر لتوظيف من يقوم بهذا العمل، إضافة لتوظيف محاسب وسكرتير وفراش، ومعقب معاملات، مع الدوائر الحكومية من قوى عاملة وشؤون وتجارة والمعلومات المدنية وغيرها الكثير، إضافة إلى تركيب هواتف أرضية، وعنوان إلكتروني، وقبل كل ذلك فَتْحُ حساب مصرفي، وقبلها طبعاً مراجعة البلدية، والصراع مع نظام الأونلاين فيها، الذي توقف عن التطور، مع تقاعد مديرها العام السابق، وهي الجهة الأهم في عملية تأسيس أي نشاط.

دون الدخول في تفاصيل كثيرة، وبعد سنة تقريباً من قراره السير في المشروع، اكتشف أنه صرف ما يقارب خمسين ألف دينار، ولا يزال في المراحل الأولى، وكتابنا وكتابكم، وفي النهاية دفعه الروتين الحكومي القاتل لأن يتنازل عن الفكرة، وينسى ما دفعه لدراسة المشروع والإيجارات والرواتب، ويعود إلى الجلوس مع رفاقه على كرسي المقهى الخشبي!

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top