بعد 15 شهراً من الدمار والخراب والقتل والتنكيل التي لم يشهد لها العالم مثيلاً في نصف القرن الماضي، والأعداد المهولة من القتلى، وأضعافهم من المصابين، بخلاف المفقودين، أُجبر الطرفان، مع الفارق الهائل بين قوتيهما، في كل مجال، على إبرام اتفاق وقف إطلاق النار، ليضع حداً، وغالباً مؤقتاً، لمعاناة الشعب الفلسطيني، ولتلتقط إسرائيل أنفاسها ولعق جراحها، بعد أن تبين أخيراً أن خسائرها البشرية أكبر بكثير مما كانت تعلن. فقد صرح رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد أن خسائرهم تعكس فشل الجيش في تحقيق أهدافه رغم استخدامه أحدث التقنيات. وأضاف الجنرال إيال زامير، الذي تولى منصبه، بعد استقالة سلفه على خلفية فشله في وقف هجمات السابع من أكتوبر، أن جيشه غير قادر حالياً على القتال بالكفاءة نفسها، ويتطلب الأمر وقفاً مؤقتاً للحرب، وأنه غير مستعد لحرب استنزاف طويلة.
تصاعدت الخلافات داخل القيادة العسكرية الإسرائيلية بعد تصريحات زامير، حيث ساد اعتقاد بأن الجيش لم يكن مستعدًا بشكل كافٍ لشن حرب غزة، وهذا ما أدى لارتفاع عدد القتلى، وتنامي الغضب على الحكومة، خاصة بعد الكشف عن التناقضات في التقارير العسكرية، وكيف أن خسائر حرب إسرائيل الأخيرة كانت أكبر وأكثر دموية من كل حروبها السابقة، بما فيها حرب عام 1948. فقد بينت تصريحات إيال زامير أن إجمالي القتلى العسكريين قارب 6000، إضافة لأضعافهم من المصابين.
* * *
ليس هناك أصعب من الإشادة بمن تختلف معه فكرياً وعقائدياً، كمنظمة «حماس»، لإيماني بأنها لا تمتلك ولن تمتلك يوماً الحل الأفضل للقضية الفلسطينية. لكن ما الحل وإسرائيل، ومِن ورائها أمريكا، لا تعرفان غير اللغة التي تتقن «حماس» تكلمها؟ فعلى الرغم من الثمن الرهيب الذي دفعه الشعب الفلسطيني، وأهالي غزة بالذات، فإنه بإمكاني القول، من خلال معايشة للقضية على مدى أكثر من 60 عاماً: إنها لم تبلغ يوماً هذه الدرجة من التأييد العالمي والاعتراف، مثل ما هي عليه الآن، ويكفي إقرار كل الأطراف بأن نتانياهو وحكومته لم يحققوا كل أهدافهم، ولا يعني ذلك أنهم هُزِموا، فهذا بعيد عن الواقع، على الرغم من أنهم تكبدوا خسائر مروعة، لم تعرفها إسرائيل في تاريخها، إلا أن «حماس» لا تزال حية، وأعداد مقاتليها في ازدياد، وإسرائيل، على الرغم من كل جبروتها، وقوتها النووية، وكل ما تلقته من دعم أمريكي وأوروبي وامتلكته من تقنيات الذكاء الاصطناعي، رضخت وجلست للتفاوض مع فصيل صغير نسبياً، مقارنةً بعدد الفلسطينيين، مثخن بالجراح بلا زعامة معروفة، ولا جهة معروفة تساعدهم، ومع هذا القبول بشروطها لإطلاق سراح المحتجزين لديها من رهائن، مقابل إفراج إسرائيل عن مئات المعتقلين الفلسطينيين، الذين كانت ترفض، لسنوات طويلة، الإفراج عنهم.

ومع كل هذا لا يزال هناك من يصر على أن الهجوم الدموي لـ«حماس» في 7 أكتوبر 2023 كان بترتيب مسبق بينها وبين نتانياهو، لمنع سقوطه ومحاكمته، وتمهيداً لتدمير كامل غزة، وقتل عشرات الآلاف من الطرفين! وزادوا على السيناريو أخيراً بأن ما تم كان أيضاً تمهيداً لوصول ترامب للرئاسة ولتعهده بترحيل أهالي غزة للأردن ومصر، وبناء «ريفييرا» شرق أوسطية في القطاع، وهذا لن يحدث أبداً!


أحمد الصراف