نحن محزونون

التقيت في منتصف التسعينات في لبنان بمجموعة من الأصدقاء الكويتيين، من بينهم النائب عبدالوهاب الهارونِ اتفقنا جميعا على زيارة منطقة بحمدون، المصيف الجبلي المعروف، وما جاورها من مناطق لتفقد وضع وحالة المنطقة وبيوت البعض منا فيهاِ وهناك، في بحمدون الضيعة، أو ما تبقى منها، التقينا بمختارها السيد خير الله، وأخذنا نتجاذب معه أطراف الحديث عن الدمار والخراب اللذين لحقا بلبنان من جراء تلك الحرب الأهلية العبثية التي أكلت الأخضر كله، وتركت اليابس على حالهِ وسأله الصديق الهارون عن أخيه الدكتور طوني، فقال انه قد توفي منذ فترة، وإن ابنه قد خلفه طبيبا للمنطقة، وإن الحريري هو الذي صرف على دراسته الجامعية المكلفة، بعد موت أبيهِ وهنا سأله أحدنا: أتقصد رفيق الحريري السياسي السني الصيداوي؟ فقال: نعمِ واستطرد، بلهجته الجبلية المحببة قائلا، وهو يمد ذراعه الطويلة ممررا إياها بشكل نصف دائري على تلال وجبال المنطقة، مشيرا الى مختلف الضيع والقرى 'يا ابني الحريري ما قصر مع حدا، علم ولاد المنطقة كلها، ما فرق بين درزي وشيعي وسني أو ماروني أو كاثوليكي، علمن كلنِ هيدا إنسان ما في متله'!
استعادت ذاكرتي تلك القصة، التي لم تغادر نفسي وعقلي الباطن قط، وأنا أشاهد جثة الرئيس رفيق الحريري على التلفزيون وقد فعل فيها الإرهاب فعلتهِ وتأسفت وتألمت وحزنت وبكيت من الداخل على حال أمة تصر على أن تأكل أطرافها بأسنانها بعد أن فقدت الرغبة في الخلاص مما هي فيه من تخلف وتشرذم.
لقد أنجب لبنان الكثير من العظماء والخالدين من أمثال إيليا أبي ماضي وجبران والأخطل الصغير وأمين نخلة والرحابنة وميخائيل نعيمة والكثير الكثير غيرهم، ولكنه لم ينجب صانع نجوم وخالدين في تاريخه غير رفيق الحريري، ولن يمر وقت طويل لكي نعرف، ويعرف الشعب اللبناني، حجم الكارثة التعليمية والثقافية والإنسانية، التي حلت بهم من جراء فقد هذا الإنسان النبيل!
لقد عرف هذا الرجل مبكرا حجم الجهل الذي تعيش فيه أمتهِ وأحس عن كثب بأن طريق الخلاص واحد لا ثاني له، وهو العلم، ومزيد من العلمِِ ولاشيء غير العلمِ وكان يعرف أن هذا الطريق هو الأصعب لكسب قلوب الناس والأكثر كلفة والأبطأ في التقدير وأقل الطرق مردودا، سياسيا أو دينياِ فالأجر والثواب، كانا ولايزالان، في عرف الكثيرين، يكمنان في الصرف على التعليم الديني وبناء دور العبادة، وهي مجالات لم يقصر في الاهتمام بها أصلاِ ولكن الاهتمام بالعلم وتعليم الآخرين شيء آخرِ وعلى الرغم من أن الفقيد الحريري خص مسقط رأسه صيدا، المدينة المنسية ابدا، بالشيء الكثير، فإن ذلك لم ينسه التفكير في مناطق وطنه الأخرى ومواطنيه الآخرين، ولأي طائفة أو دين انتموا، فقد شملت رعايته الجميع دون استثناء، وامتدت لتشمل، ليس فقط المساعدات الاجتماعية التي لم تعرف حدودا، وما أسهلها من مهمة لمن يمتلك المال الوفير! ولكن لكي تغطي تكاليف تعليم وابتعاث عشرات آلاف الطلبة لأكثر من ألف جامعة حول العالم لتلقي العلم على حسابه الخاص، وهنا تمثلت عظمة الحريري الحقيقية وقمة إنجازاته.
إن ما فعله هذا الإنسان منفردا لوطنه وأمته، في مجال نشر التعليم والثقافة، لم يفعله أحد لهما منذ ألف عام أو أكثر، وربما سيمر وقت طويل قبل ان يقوم بما يماثله شخص آخر.
من أجل هذا بالذات إننا لفراق الشيخ رفيق لمحزونون!

الارشيف

Back to Top