يوم ماتت مبادرة

يقع مكتب صديقي سلمان في أحد الأدوار العليا لبرج على شارع أحمد الجابر، ويطل على البحر. يشاهد سلمان في الأفق أمامه منظرا جميلا وبحرا رائقا جميل اللون، ولكن ما ان يخفض بصره إلى تحت قليلا حتى يغشاه حزن عميق لمنظر الساحات الترابية الشاسعة التي تحيط به من اتجاهات ثلاثة، والتي لم يعتد على منظرها الكئيب حتى بعد مرور ثلاثين عاما على استملاك ما كان عليها من بيوت قديمة وهدمها، وتركها عارية في جهة وخرابة في جهات أخرى، وفي قلب العاصمة لتستخدم غالبا كمواقف عشوائية لسيارات مراجعي البنوك وشركات التأمين والاستثمار الواقعة حولها العاصمة التجارية للكويت، حيث البورصة والبنك المركزي وغير ذلك. يقول سلمان إنه، ومنذ عشرين سنة، وهو يعاني ويشعر بغصة كلما نظر لمنظر آلاف المركبات التي تقف أمام ناظره تحت شمس حارقة يصعب فيها حتى فتح باب السيارة دون الاستعانة بمنديل ورق أو قماش، وكيف ان مئات ملايين الدنانير تهدر يوميا بسبب عدم استغلال هذه الساحات في أغلى منطقة عقارية في الكويت، وفي مجتمع لا يمانع صاحب أي سيارة في دفع دينار أجرة وقوف في موقف نظيف وآمن لساعة، وليس مئة فلس فقط، ومع هذا تركت الأراضي من دون استخدام لأي غرض كان، علما بأن المخططات الهيكلية والتنظيمية، حسب اعتقاده، موجودة، ولا يحتاج الأمر غير تحريك عجلة تنفيذها. الغريب، أو المضحك، أننا نفكر ونخطط ونسعى ونرصد المليارات لبناء مدينة أو إقليم الحرير على بعد أكثر من مئة كيلومتر عن قلب العاصمة، وهذا القلب، العاصمة الأصغر في العالم، لا يزال نصفه بحاجة ماسة للتطوير، ونصفه الآخر أرضا فضاء غير مستغلة منذ ثلاثة عقود! هدم مباني الصوابر كان خطأ جسيما بحق التراث والبيئة وهوية العاصمة، التي أصبحت الوحيدة في العالم التي لا يسكنها اهلها، على الرغم من أن مساحتها لا تزيد على 13 كلم2، وتمتد من قصر دسمان شرقا وحتى الكنيسة الكاثوليكية وفندق الشيراتون غربا، ومجمع الوزارات جنوبا وقصر السيف شمالا. سألني سلمان عن السبب في هذا الإهمال وعدم الاكتراث بتطوير العاصمة وجعلها الأجمل، والقضاء على كل هذه المساحات الترابية الشاسعة التي بقيت على حالها منذ عقود، ولماذا لا تسد حاجة العاصمة لمواقف سيارات مظللة متعددة الأدوار، أو تحت الأرض، تستخدم آخر الأفكار الهندسية في بنائها؟ فقلت له إن السبب كان في موقف مجلس الأمة والحكومة تالياً من «المبادرة الشخصية»، التي ماتت بعد أن تكالبت عليها اصوات «المدافعين عن المال العام»، فاختار «المبادرون» السلامة والانزواء في مكاتبهم، بدلا من التعرض للتشهير والاتهام بسرقة الكويت على يد نواطير المال العام. لا شك ان تجارب الكويت مع مشاريع المبادرة الشخصية، كمشروع مدينة جابر الأحمد البحرية، كانت كارثية، ولكن العيب لم يكن من المبادر بقدر ما كان من الحكومة التي تساهلت مع المستثمر ولم تطور تشريعاتها بما يكفي لسد ثغرات استغلال البعض لمشاريع الدولة في الإثراء السريع ورمي المشروع على الدولة لتدبر أمرها. الآلية الحكومية بطيئة البيروقراطية قاتلة، والتدخلات في القرار الحكومي متجذرة، ولا تزال الكثير من المشاريع الحيوية في قلب العاصمة تنتظر القرار بتحريكها، وبالتالي ليس هناك من حل غير تشجيع المبادرات الشخصية، سواء للشركات الاستثمارية والعقارية او للأفراد، بعد وضع الأنظمة اللازمة لعملها، فمشروع البي أو تي bot الأخير ولد ميتا، ويجب الاهتمام قبل اي شيء آخر ببناء مواقف سيارات عصرية تشكل موردا ماليا كبيرا للدولة وتخفف عن السكان معاناتهم لستة اشهر كل عام في أكثر مدينة حارة ومتصحرة في العالم.

أحمد الصراف 





الارشيف

Back to Top