في الحرية والديموقراطية والدين

كتب الزميل والأكاديمي المعروف سعد بن طفلة يقول ان ما اتُّفق على تسميته «إعلامياً» بالربيع العربي كان درساً تاريخياً لنا جميعاً لإعادة المذاكرة والمراجعة لطبيعة فهمنا للحرية كقيمة مطلقة للإنسان. فالحرية تندرج تحتها ممارسات متعددة، كحرية الرأي والتعبير والكتابة والقراءة والنشر والبحث والعبادة والمعتقد والحريات الشخصية وحرية الإعلام وحرية الاختيار، كما تندرج من بين تلك الحريات حرية الديموقراطية التي تعطي الإنسان حق اختيار من يرسمون له سياسة بلاده ومستقبلها ويديرون شؤونها. هناك خلط يعكس جهلاً بين الحرية والديموقراطية، فالديموقراطية تعني إدارة الناس، وهي مكونة من كلمتين، ديمو، وتعني الناس أو المواطنين. وكراسيا وتعني الإدارة. وترجم دعاة تسييس الدين «الديموقراطية» بأنها «حكم الشعب»، فقالوا: هي كفر صراح، فلا حكم إلا لله. بينما الأصح أنها «إدارة الشعب»، ولا علاقة لذلك بالكفر أو الإيمان. صُدم الكثيرون في مرحلة الربيع العربي، بعد ان استبشروا ببداياته، حيث اعتقدوا أنها ثورات حرية حتمية انتفضت ضد القمع والظلم والفقر والتخلف. ولكن ثبُت تاليا أنها كانت في الغالب ثورات صادقة ضد القهر والفقر وحسب، ولم تكن ثورات من أجل الحرية، فلم تتشكل روح الحرية والإيمان بها في أعماق الثائرين ولا حتى بين قيادات هذه الثورات، لأنها لم تكن موجودة أصلا. ففي العقل العربي، كلٌّ يدّعي أنه يؤمن بالحرية دون إدراك بما تعنيه الحرية في حقيقة الأمر. فالغالب أن حدودها تتشكل في فكر كل واحد فينا حسب أهوائه، وتراثه الثقافي والديني، أو التي حددتها له مرجعيته الدينية، بعد أن سلم الغالبية عقولهم للموروث، وتنازلوا طوعاً بكل كسل وبلادة وخوف عن حقوقهم في تحديد ورسم حدود حرياتهم! ويرى الزميل أن القمع الاجتماعي في كل بلدان العالم العربي أشد ضراوة وقسوة من قمع الدكتاتوريات العربية، فالدكتاتوريات لا تصادر حرياتك الاجتماعية في الغالب، بينما يصادر أصحاب ترسيم حدود الحريات، حريتك الاجتماعية والسياسية، والدكتاتوريات غير معنيّة سوى برأيك السياسي، أما قوى الدين السياسي، والمستفيدون منهم، وهو العصب الأقوى، فإنهم يصادرون حقوق المواطنين السياسية والاجتماعية ويدخلون حتى في غرف النوم ودورة المياه، لكي يحددوا للكل كيفية ممارسة السلوك الطبيعي، ولهذا تقرب الأنظمة الدكتاتورية هؤلاء لها للاستعانة بهم في التحكم في رقاب البشر، بأقل تكلفة. فالحرية تأتي قبل الديموقراطية، ولا حرية لدى المسيّسين، وكلنا تقريبا في هذه الأمة مسيّسون، والمسيّس لا يمكن أن يكون حراً، فلديه «ضوابط وحدود» ومبادئ وآراء ومواقف، وهذا ينطبق على الجميع من دون استثناء تقريباً: الأميون والمتعلمون والمثقفون والجهلة (بمن في ذلك كاتب هذه السطور)، كلنا يطالب بالديموقراطية ويدّعي الإيمان بالحرية ذات «الضوابط والحدود»، وكل واحد فينا لديه ضوابطه وحدوده المختلفة عن الآخر. قد يقول قائل: وماذا عن مسيّسي الشعوب الديموقراطية الحقيقية المتقدمة؟ والجواب أن هؤلاء تسيّسوا وسط أجواء من الحرية كقيمة لا ضوابط ولا حدود لها، ولا خلط هنا بين الحرية كقيمة تشبّعت بها هذه الشعوب المتقدمة وبين ضوابط القوانين التي سنّتها بطرق ديموقراطية، تلت تحقيق الحرية والإيمان بها، فهناك فرق كبير بينها وبين تلك الضوابط والحدود التي يفرضها الأفراد والمجتمع كضوابط موروثة من دون مراجعة أو مناقشة، بل إن مناقشتها من المحرمات، ومن يجرؤ على مراجعتها أو التشكيك فيها، فالويل له. وبالتالي فإن الحرية شيء، والديموقراطية شيء آخر، ودعاة الديموقراطية بيننا لا يؤمنون بالحرية، بل هم ينشدون امتطاء الديموقراطية للوصول إلى السلطة، ومنها يلغون الآخر، ويفرضون الضوابط والحدود كما يشاؤون، ثم نعود إلى المربع الأول ونستمر في حلقة مفرغة. أكتب كل ذلك بمناسبة ما يجري في لبنان حاليا، وفي العراق، إلى حد كبير. فكل ما نراه سيختفي متى ما عاد كل متظاهر، بعد سكون الثورة، ومآلها السكون مهما طال أمدها، عاد إلى مذهبه الديني وتمسك به وتخندق خلفه، ساعتها ستعود الأمور للمربع الأول، وكأنك يا بوزيد ما غزيت!

أحمد الصراف 

الارشيف

Back to Top