الزواج المدني

لم تتوقف القوى المدنية الحرة في دول إسلامية عدة يوماً عن المطالبة بالسماح بالزواج المدني بين أبناء الطوائف والملل المختلفة، والاعتراف به زواجاً شرعياً قابلاً للحياة، بدلاً مما هو حاصل الآن، حيث يقوم كل من يود الزواج بغير أبناء ملته إما بالسفر لدولة أخرى، كقبرص مثلاً، وإما بالزواج بصورة مدنية بصفة مؤقتة، أو تحول الرجل إلى دين المرأة، الإسلامي غالباً، ولو بصورة صورية، وإتمام الزواج. وفي لبنان، سبق أن حركت وزيرة الداخلية ريا الحسن موضوع الزواج المدني مؤخراً، فتولّد عن ذلك «عصف فكري جميل»، بحسب رأي القارئة إلهام الحلو بين الممانعين والمؤيدين. وبالرغم من أن هذا العصف لم يؤدّ إلى نتيجة آنية، بسبب التصدّي المنهجي الهائل للفكرة من قبل قوى محافظة عدة، فإنه سيساهم حتماً في تطوير النظم والقوانين المعمول بها باتجاه السماح لمثل هذا النوع من الزواج. فالأجيال الجديدة القادمة لن تبقى مكتوفة الأيدي حيال مصادرة قرارها وحريّتها في الاختيار، إلا إذا نجح المحافظون المعارضون للأمر في إغراق الشباب في ما يشغلهم من قضايا يومية عاجلة، واستغلال الفقر والجهل، الآفتين المتلازمتين، في تغيير قناعاتهم، والجهل هنا ليس في عدم نيل الشهادات الدراسية، بل العجز عن إعمال العقل والفكر والمنطق في القضايا المصيرية. وتقول المربية الحلو إنه في عام 1936 شهد صدور القرار 60/ ل ر، الذي جمع بين مراعاة خصوصية الطوائف في لبنان، وقيم حداثويّة مستمدّة من فكر الجمهوريّة في فرنسا، وفي طليعة ذلك حريّة الضمير والاعتراف بالفرد، وحقّه في ترك طائفته أو في اعتناق أي طائفة أخرى. وأشار القرار إلى فئة من اللبنانيين لا ينتمون لطائفة ما وأخضعهم للقانون المدني في أحوالهم الشخصيّة. لكنّ المعترضين على إقرار الزواج المدني «الاختياري» من كل لون ودين لم يطلعوا على ما سبق، ولم يقرأوا جيّداً الدستور اللبناني في مقدّمته ومواده، ولم يوسّعوا آفاقهم بالاطلاع على الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، بل إنّهم في الأساس لم يتعمّقوا في جوهر الدين المُلازم للحريّة، والذي يجب أن يكون منفتحاً على الآخر، يبشّره بأفكاره ومعتقداته بـ«الحسنى» وليس بالترهيب. وبالأمس، رحّب البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي بالزواج المدني «الإلزامي» الذي يساوي ما بين اللبنانيين، وكلامه «المُفخخّ» هذا وإقراره بالزواج المدني من دون نعوت «إلزامي» أو «اختياري» أو «ما بين بين» يكون قد رمى الكرة في ملعب الفريق الآخر أو المسلم، وهذا الأخير يستميت في الرفض خصوصاً، ويتخوف من تحوّل الزواج المدني إلى «إلزامي»، لأن الإلزام هنا يعني التقيّد به، وجعله المرجع الأوّل. وبذلك تخضع له أحكام تعدّد الزوجات والميراث والطلاق وما إليها، وبالتالي من المحتم أن يرفضه رجال الدين المسلمون. volume 0% المهم في النقاش الفكري غير المُثمر حاليّاً على أرض الواقع أن يرتقي إلى مستوى العقل. فربط الزواج المدني بالرذيلة والانحلال والتفكّك المجتمعي ضرب من «استهبال» اللبنانيين، لأن الأديان لم تتمكّن إلى اليوم من منع الخيانة الزوجيّة، والخلافات العائليّة، والتفكّك الأسري، ورمي الأولاد في مستوعبات النفايات. كما لم تحل الأديان أو تمنع وقوع الحروب الأهلية، في لبنان وغيره، والتي تسببت في قتل وإعاقة أكثر من 200 ألف لبناني وتهجير ضعفي هذا العدد أو أكثر. كما لم يمنع أو يحد المجتمع الطائفي، الرافض للزواج المدني، من تغلغل الفساد في المؤسّسات، ومنها المؤسّسات والمحاكم الدينيّة، وواضح أن المجتمعات العلمانيّة سبقتنا في مجال حقوق الإنسان، والتقدّم العلمي، وتحقيق الرخاء الاجتماعي. أمام كل ما سبق، يُصبح السؤال عن أسباب إلصاق كل الصفات السيّئة بالعلمانيّة والمدنيّة، وتبرئة الحالة الطائفيّة التي لم توفّر لدولة رغد العيش، يصبح مباحاً، إلا إذا صدقنا أننا الأفضل في العالم.. في كل شيء!

أحمد الصراف 



الارشيف

Back to Top