الردّ الإيراني على مقتل سليماني

يقول المفكّر البريطاني الكبير برتراند رسل: «قد نقضي العمر ونحن نعتقد أننا ندافع عن أفكارنا، ثم نكتشف أننا كنا في الحقيقة ندافع عن الأفكار التي زرعها الآخرون في عقولنا..! وإن من الخطورة أن تعيش المجتمعات في جهل وتخلّف، ولكن الأكثر خطورة أن ترى جهلها أمرا مقدسا!».

***

علاقتي بإيران مربكة ومتشابكة، وكدت أسجن لسنوات في قضية أمن دولة بسبب تهمة التهجّم على آية الله الخميني. أعشق أمورا كثيرة في إيران، ولكن لأسباب يطول شرحها فقد قطعت صلتي بها منذ ما قبل الثورة الإسلامية بعقود، وتعمّقت المقاطعة الطوعية مع قيام الثورة واستيلاء القوى الدينية على كل مفاصلها، وبالتالي لم أقم بزيارة إيران خلال نصف قرن إلا مرة واحد لغرض استرداد دين على أحد مصارفها!

***

كان من الممكن، حتى تحت حكم الملالي المتواضع القدرات إداريا، أن تصبح إيران قوة اقتصادية تفرض احترامها على القريب والبعيد، وأن تسهم تلك القوة في تقدّم ورخاء الشعب الإيراني، ولكن شيئا من هذا لم يحدث بسبب أمرين: مناداة قيادتها بأهمية تصدير الثورة، واعتقاد صدام أنه سيكون أول ضحايا تلك الدعوة، ليس فقط بسبب الأغلبية الشيعية بين شعبه، وهشاشة نظام حكمه القائم على دكتاتورية البطش، وبالتالي لم يجد أمامه حلا غير شن حرب يمكن من خلالها إطاحة نظام «آيات الله»، متجاهلا كل الحقائق على أرض الواقع المخالفة لاعتقاده أن بالإمكان احتلال دولة تفوقه قوة ومساحة وعددا، وكان الغباء الشديد عنوان حرب أنهكت قوى البلدين لعقود تاليا، وكان من نتائجها قرار صدام، الغبي، احتلال الكويت؛ ليكون في ذلك نهايته وحكمه، وبالتالي تسليم مقاليد العراق «ديموقراطيا» لأغلبية شيعية، ليتبع ذلك تغلغل إيران، عن طريقهم، للعراق لتنفتح شهيتها بعدها للتدخّل في سوريا وقبلها لبنان ومعهما اليمن، وليفتخر قادة إيران وأئمة مساجدها بأن دولتهم تمتد لتشمل أربع عواصم عربية. *** تطورت الأمور في تسارع غريب مع اغتيال سليماني، وقرار إيران الانتقام له، وإن بطريقة مأساوية، فقد نتج عن ذلك مصرع وجرح المئات خلال مراسم تشييع سليماني، وقتل كل ركاب وطاقم طائرة أوكرانية أُسقطت بصاروخ إيراني، وغير ذلك من خسائر، واعتراف الحكم بإسقاطها، عن طريق الخطأ. إن التفرّغ لبناء إيران العصرية والحديثة، وإقناع خيرة العقول الإيرانية التي اختارت الهجرة للعودة وبناء الوطن، أهمّ وأجدى، وطبعا أصعب بكثير من الاهتمام بمتطلبات احتلال دول العالم الأخرى. فربما كانت القيادة الإيرانية ترى أنها كانت، ولا تزال، معنية بصورة مباشرة بوضع الشيعة في العالم، وبالذات في لبنان واليمن وسوريا والعراق، ولكن ماذا عن الشيعة في إيران نفسها؟ فهل اكتفى الشعب الإيراني من كل شيء لتتفرّغ قيادته لرفع مستوى الشيعة في دول العالم الأخرى؟ لو كنت مكان القيادة في إيران، ولن أكون، لوجدت في الكوارث الأخيرة التي أصيبت بها الدولة، مخرجا للوضع الاقتصادي والسياسي المتردي، وذلك من خلال الانسحاب التدريجي والهادئ، سياسيا أو عسكريا، من كل التدخّلات في شؤون دول العالم الأخرى. فإضافة إلى استحالة احتلال او التحكّم في مصير الغير إلى الأبد، فإن ما يحتاج له الشعب الإيراني يحرم على الغير، وهو بالفعل بحاجة الى كل شيء، حرم منه طوال أربعين عاما، إلا من الخطب والشعارات والمسيرات وإقامة الشعائر!

أحمد الصراف



الارشيف

Back to Top