الشهيد جورج

لو عاد جورج فلويد للحياة لغادرها ثانية نتيجة اختناقه، هذه المرة من الضحك الهستيري، على ما رآه من مظاهر النفاق والمتاجرة بحادثة موته المأساوية، وقيام البعض بتطويبه «شهيدا»، وإطلاق اسمه على معالم وشوارع، وتطويق رقبته بالكوفية الفلسطينية، وغير ذلك.

***

أبحرت سفينة برتغالية تحمل رقيقا من افريقيا عام 1619 بينهم نساء ورجال وأطفال في رحلة مروعة متجهين لحياة الاسترقاق في المكسيك. ولقي نصفهم حتفهم قبل أن تستولي سفينتان إنكليزيتان على «شحنتها»، وكانت تلك أول محاولة لإنشاء نظام الاستعباد على أساس العرق.

***

من يومها ساهم عرب ومسلمون وأفارقة وأوربيون وغيرهم في تجارة الرقيق، و«شحنوا» البشر كالمواشي للأميركتين، وتاجروا بمصير ودماء وأرواح أكثر من 12.5 مليون افريقي قبل أن يضع العالم حدا لهذه التجارة البشعة وغير الإنسانية، وكان لكل المراكز الدينية دورها في السكوت عنها، كما شكلت مصلحة مادية لغيرها، وبالذات الكنيسة الكاثوليكية، التي وفرت لها هذه التجارة المحرمة القوة السياسية والمكانة الاجتماعية والثروة الطائلة. بعد أكثر من 240 عاما، وفي عهد الرئيس «أبراهام لنكولن»، وبعد حرب أهلية شرسة، ألغي نظام الرق في الولايات المتحدة الأميركية عام 1865، لتبدأ معاناتهم، وإن من نوع مختلف. فوصمة عار الرق والعمل لقرنين ونصف القرن «من دون مقابل» بقيت معهم... حتى اليوم! بدأت الصدمة عندما تخلى «السادة» عنهم فجأة، وتركهم عبيدهم «أحرارا»، ولكن من دون عمل ولا أدنى مقومات العيش، وبعضهم أصبح بين ليلة وضحاها من دون مأكل ولا مسكن ولا ملبس ولا تدريب ولا تعليم ولا رأسمال ولا حوافز ولا فرص عمل، ولا مساواة حقيقية، خاصة في الولايات الجنوبية التي منعت عنهم كل حقوقهم لأكثر من قرن بعدها، وبالتالي جاءتهم الحرية مع الجوع والفقر والمرض، لتبقى مع نسبة كبيرة منهم حتى اليوم.

***

وقف المدرب أمام صف من الرياضيين، ملوحا بورقة من فئة المئة دولار، قائلا: من يصل أولا يحصل عليها، ولكن قبل ذلك أريد من كل من لا يزال أبواه متزوجين أن يتقدم خطوتين إلى الأمام. فتقدم البعض وتخلف غيرهم. فأكمل المدرب: كل من يعيش في أسرة للأب سلطته، أن يخطو خطوتين للأمام! تقدم البعض وتخلف غيرهم. وأكمل: كل من لم يفكر كيف سيدفع رسوم الجامعة، خطوتين! فتقدم البعض وتخلف آخرون. كل من لا يشغله من أين سيأتي طعام العشاء، خطوتين! تقدم البعض وتخلف آخرون. ثم قال: والآن أرجو ممن وصلوا للمرحلة الأخيرة الاستدارة للخلف لتعرفوا بان بينكم سودا وبيضا والفرق فيمن وصل ومن لم يصل يعود لعوامل غالبا لا يد لكم فيها، فأغلبية من تخرجوا في الجامعة وحصلوا على أفضل الوظائف لم يكن بسبب كفاءتهم بل بسبب تسهيل الظروف أمامهم لكي ينجحوا!  وهذا ما حدث مع الأميركيين من أصل أفريقي. فقد حصلوا على حريتهم، ولكن لا أحد فكر في أن يوفر لهم البيئة المناسبة لممارستها بطريقة سليمة.

***

ما يؤلم الأفريقي هو نفس ما يؤلم البدون: فنسبة عشرة في المئة مما تعطيه أميركا لمختلف دول العالم كمعونة «سياسية» كفيل بقلب حياة الأميركيين من أصل أفريقي رأسا على عقب. ولو صرفت الجمعيات المسماة بالخيرية نصف ما تخزن من أرصدة على تحسين ظروف معيشة البدون، من دون انتظار لتشريعات وقرارات حكومية، لغابت وصمة العار إلى الأبد.

أحمد الصراف

a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top