الاحتمالان الصعبان

بادرني صديق بالسؤال عن حقيقة شعوري، ونحن نشاهد تلفزيونيا انسحاب القوات السورية ومخابراتها من لبنان، إزاء ما يحدث في تلك الدولة، وعما إذا كانت الأمور ستستقر أخيرا في ذلك البلد الجميل بعد كل ذلك العنف وعمليات الاغتيال والقتل والتشريد والتهجير التي حدثت فيه طوال السنوات الخمسين الماضية، أي منذ أن عرفت لبنان في صيف عام 1954!
قلت له إن ما أتمناه يختلف عما هو واقع على الأرضِ فالأمور، برأيي المتواضع، سوف لن تتطور للأحسن كثيرا على المديين: القصير والمتوسطِ فاستقرار السلم في لبنان مرهون بتحقيق أمرين، أحدهما صعب، والآخر شبه مستحيلِ ولكن ما أبديه من تشاؤم هنا سوف لن يمنع وقوع الأحسن، ويظهر خطئي، وهذا ما أتمناه من كل قلبي!

لبنان بلد جميل بكل ما تعنيه الكلمة، جميل بأهله بحبهم للمرح والحياة الحلوة، جميل بسواحله بهوائه بجباله وثلوجه وبعاداته الضاربة بجذورها في الأرض، بدبكته وكبته وفيروزه وصباحهِ ولكنه في الوقت نفسه، كان وربما لايزال، مركزا لتبييض الأموال، وتبييض أمور كثيرة أخرى، ومكانا لتصنيع مختلف البضائع المقلدة وممرا لتهريب العديد من السلع والموادِ كما لايزال الكثير من فئاته مسلحا بأكثر الأسلحة فتكا، والمدفون منها تحت الأرض أكثر من الظاهرِ كما لايزال الولاء في لبنان للطائفة ورئيسها يسبق الولاء للوطنِ فالوطن لا يعطي ولا يهب مالا ولا منصبا ولا جاها، أما الطائفة فهي التي تغني وتفقر، تحيي وتميت، ولا يمكن الوصول لمنصب أو مركز عن غير طريقهاِ نعم، ما إن يصدح صوت وديع الصافي عاليا في حب لبنان حتى تنفتح الحناجر مرددة وراءه 'ِِ لبنان يا قطعة سماِِ' وترتفع الأيدي مهللة له وتنهمر الدموع وتخفق القلوب في حب لبنان العظيم والجميلِ ولكن ما إن تشرق شمس صباح اليوم التالي، وربما في الليلة نفسها، حتى يعود الجميع لانتماءاتهم الطائفية، ناسين قسرا، أو متناسين طوعا، وطنهم بالرغم من الدموع التي ذرفت، قبلها بلحظات، في حب لبنان.
وعليه، فإن أمر استتباب السلم في لبنان يعتمد أولا على الغاء الطائفية الدينية فيها وجعلها دولة ديموقراطية علمانية بالدرجة الأولىِ فلبنان ليس بحاجة لحب أبنائه بقدر حاجته لاحترامهم وإخلاصهم له.
كما يعتمد السلم الوطني في لبنان في المقام الثاني على الحالة الصحية للجار الكبير.
فعندما يجد أحدنا نفسه في غرفة مع طرف آخر مصاب بنزلة برد، ومجبر في الوقت نفسه على أن يلتصق به جغرافيا بسبب ضيق الغرفة، فإن أمامه ثلاثة احتمالات لتجنب إصابته بالنزلة نفسهاِ إما ان يغادر الغرفة ويرحل، أو يغادر الطرف الآخر الغرفة ويرحل، او يقوم الطرف الآخر بمعالجة نفسه سريعاِ وحيث ان رحيل لبنان عن موقعه مستحيل وكذا الأمر مع سوريا، فإنه لا يتبقى غير خيار التغيير في سورياِ فالسلم الأهلي في لبنان لا يمكن ان يتسبب بغير تغيير الظروف السياسية في سوريا الجار والصديق إلى الأفضل وتحولها الى دولة ديموقراطية علمانية أخرى في المنطقةِ فبغير ذلك، بسبب ظروف سوريا المخابراتية، وفساد جزء كبير من الطبقة السياسية في لبنان، فإن الأمور سوف لن تهدأ ولا تستقر أبدا، وسنظل نشكو الحال ونلطم الخدود ونبكي إلى أن نوارى الثرى كما ووري مئات الآلاف قبلنا وهم بانتظار استقرار لبنان وعودة الليرة إلى مجدها السابق في ذلك البلد الجميل المسمى لبنان!

الارشيف

Back to Top