مات صاحب الضمير والنفس الأبية

تعود معرفتي بالصديق المرحوم أحمد البغدادي الى سنوات طويلة. وفي عام 1999، وبعد أن توطدت صداقتنا فكريا وعرفنا طينة بعضنا، قدم لي مخطوط كتاب جديد له بعنوان «تجديد الفكر الديني.. دعوة لاستخدام العقل» وطلب مني مراجعته والتعليق عليه، وبعد أسبوع أعدت له المخطوط طالبا منه إعفائي، لاعتقادي أن المراجع وكاتب المقدمة يجب أن يكون أكثر علما ومعرفة من المؤلف، أو على الأقل مساويا له، في موضوع الكتاب! وبما أنني لست هذا ولا ذاك، فلن أكتب مقدمته، وعليه نشره كما هو، فمد يده شاكرا ولم يقل شيئا! وعندما أبلغني الصديق طالب المولى بخبر وفاته تذكرت تلك الواقعة، وشعرت، ولا أزال أشعر، كأن شيئا مني قد مات!
إن رحيل هذا الرجل الكبير، قامة ومقاما، سيترك فراغا لا أعتقد أن أحدا من «مفكري» الكويت وكتابها وأدبائها وسياسييها يستطيع ملأه بسهولة، فقد كان أبو أنور فريدا في مكانته متحدثا جيدا وصاحب مقال صحفي ورأي واضح وحر، وباحثا متعمقا ومؤلفا متمكنا، والأهم من كل ذلك، وهذا ما لا نجده في غالبية أو كل زملائه الأكاديميين وحتى رفاق دربه، هو وضوح مواقفه السياسية والعقائدية والدينية، وثباتها في العشرين سنة الأخيرة، وهي الفترة التي عرفته في الجزء الأعظم منها.. عن قرب!
قد لا يكون أحمد البغدادي الوحيد الذي يستحق لقب «مفكر كويتي»، ولكن مكانته أكبر من أن تختزل في مقال أو خطبة أو مرثية تُقال أو لقب يُمنح، فقد كان قمة في أشياء كثيرة، وكان يتسم بجرأة نادرة وشجاعة في قول الحق من دون تردد، وكان صاحب موقف، فقد رفض بكل إباء مختلف المغريات والعروض المادية التي لم يستطع الآخرون، الأكثر غنى منه، مقاومتها، وكنا نتشاور في العروض التي كانت ترده بالظهور على هذه القناة أو بالكتابة في تلك الصحيفة، وكنا نشد من أزر بعضنا في رفض تلك الإغراءات!
ربما لا يعرف الكثيرون عن البغدادي سوى أنه كاتب مقال صحفي جريء، وكان في السنوات الأخيرة يكتب في جريدة السياسة، التي منحته هامش حرية يليق بمكانته، ولكن عندما يأتي اسم الكويت في أي حفل سياسي أو منتدى أو تجمع ثقافي يطفو اسمه على السطح، فهو المدافع الإنساني والكاتب الليبرالي والداعية العلماني والملتزم والأكاديمي، وسجين الرأي، الوحيد ربما، والحقيقي، في تاريخ الكويت، وفوق هذا كان متدينا لا تفوته صلاة ولا شهر صيام، ولم تعرف الخمرة طريقها لجوفه، ولسنا هنا في معرض مدحه أو ذمه، بقدر أهمية تبيان ذلك لكل أولئك الذين كالوا له مختلف التهم وأساؤوا اليه بشتائمهم وطعنوا في شخصه ومعتقده وصحة تدينه، ولم يترددوا في تكفيره وملاحقته وتلفيق مختلف التهم له وايذائه في أهله ورزقه، لا لشيء إلا لأنه كان يوما منتميا، حزبيا، لهم، وكان بالتالي يعرف «خمال سلفهم» و«ألاعيب إخوانهم» ومداهناتهم وتلفيقاتهم المشبوهة.
أحمد البغدادي لم يكن كاتبا صحفيا عاديا، بل كان «ادوارد سعيد» الكويت، ولم يكن باحثا عاديا في التراث، بل «محمد عابد الجابري» الكويت، ولم يكن متحدثا ومفكرا فقط بل كان أيضا «أدونيس» الكويت، ولاشك أن من كانوا يعارضونه وينتقدونه من المتأسلمين يشعرون الآن كم هم صغار أمام حجج ومواقف هذا الرجل الذي لم تستطع كل أموالهم شراءه بأي ثمن.. فسلام عليك يا صديقنا الكبير أينما تكن.
< كتاب «تجديد الفكر الديني»، ممنوع تداوله في الكويت ولكن مادته تدرس في جامعة تونس.

الارشيف

Back to Top