رحلة البرازيل

قد لا يكتمل ادب الكتابة عن الرحلات دون التطرق الى الحديث المستفيض عن البرازيل، تلك الدولة الشاسعة الاطراف التي تقع ضمن القارة الاميركية الجنوبية بمساحة تقارب ثمانية ملايين كيلومتر (الكويت 18 الف كيلومتر)، وغالبية اراضيها بكر لم تكتشف بعد، ولا يعرف احد بالدقة عدد سكانها، لكنه يزيد حتما عن 160 مليون نسمة.
يمكن القول ان البرازيليين هم الشعب الوحيد الكثير العدد في العالم الذي لا يمكن تمييزه او تحديد جنسيته بسهولة بسبب تنوع اعراقه واصوله.
فلو جمعنا عشرة الاف شخص من كل دولة كبيرة في العالم لوجدنا ان هناك سمات مشتركة تجمع غالبيتهم، وبالتالي يمكن اما تحديد جنسيتهم بدقة او القول انهم من اصل وعرق واحد تقريبا، وهذا ما لا يمكن فعله مع البرازيليين لأنها بلد الاقليات الكبيرة العددِ فبالاضافة الى البرتغاليين واهل البلاد الاصليين من الهنود ومن المتحدرين من اصول افريقية، هناك اعداد كبيرة من الالمان والايطاليين والاسبان الذين تزاوجوا مع الكل فنتج عن ذلك خليط عجيب، وجميل في احيان كثيرة.
محطتنا الاولى في الدولة الوحيدة في القارة التي يتحدث شعبها البرتغالية بخلاف بقية شعوب اميركا الجنوبية الذين يتحدثون الاسبانية، كانت في مدينة فوز دي ايكواسو foz do iguacu او ملتقى فرعي نهر اكواسو.
وفوز مدينة عجيبة بكل المقاييس، بالرغم من صغرها، فهي تقع في مثلث حدودي يجمع البرازيل بالأرجنتين والباراغوي.
عرف اللبنانيون هذه المدينة الحدودية المهمة والصالحة للمعيشة منذ فترة طويلة نسبيا، بالرغم من بعدها عن بقية مدن البرازيل الكبرىِ فقد تواجد فيها منذ بداية القرن تقريبا لبنانيون دروز، وتبعهم بعد ذلك بسنوات مواطنوهم من الشيعة، ومن منطقة الجنوب بالذاتِ ولا يعرف احد اجمالي عددهم، ولكن يقال أنهم في حدود 40 الفا، ولا يبدو واضحا سبب اختيار البعض لتلك المدينة كمهجر غير وقوعها على مفترق طرق الباراغوي والارجنتين، وما يعنيه ذلك من امكان العمل في تجارة تبادل السلع بين الدول الثلاث، وما قد يتخلل ذلك من امكان عمل البعض في تهريب السلع من دولة الى اخرى، وفي جميع الاتجاهات، وهي التجارة التي اصبحت شبه مشروعة، وتتم تحت سمع وبصر ونظر واشراف سلطات جمارك الدول الثلاث، من دون تدخل حقيقي بسبب استحالة ضبط عملية انتقال السلع والمنتجات المحلية، منها والمستوردة على السواء، من نقطة الى اخرى بينهما بسبب طول الحدود، ووعورة المنطقة بغاباتها الكثيفة، وبالتالي استحالة السيطرة عليها.
في فوز توجد اعظم شلالات اميركا الجنوبية، وواحد من اجمل شلالات العالمِ كما يمر بها كذلك مع حدودها مع الباراغوي نهر بارانا الذي اقيم عليه سد ايتايبو itaipu العظيم الذي بوشر العمل فيه في عام 1975 وانتهى بناؤه في عام 1991، وهو يفوق السد العالي في مصر حجما بكثيرِ ويقوم السد بتوليد طاقة كهربائية تكفي عدة مدن حدودية، اضافة الى تزويده مدينة ساوباولو البرازيلية، كبرى مدن اميركا الجنوبية وثالث اكبر مدينة في العالم بكامل، حاجتها من الكهرباء.
محطتنا الثانية، كانت مدينة ريو دي جانيرو، التي تعني 'نهر يناير'، مدينة جميلة اخرى من مدن البرازيلِ تقع ريو على المحيط الاطلسي مباشرة، ويمكن وصفها بأجمل مدن العالم، وبأقلها امانا في الوقت نفسه، اشتهرت ريو بجمال طبيعتها وفجورها المطلق.
وبالرغم من ان موسم الكرنفال في البرازيل يبدأ في شهر فبراير من كل عام، وبشكل متزامن في مختلف المدن البرازيلية، وتستمر الاحتفالات لفترة اسبوعين تقريبا، فإن كرنفال الريو كان دائما الاشهر والاكثر صخباِ والكرنفال عبارة عن مسيرات احتفالية تقوم بها فرق رقص وموسيقى تجوب الشوارع ويشارك الاهالي بها بشكل جنونيِ والفكرة وراء اقامة الكرنفال تكمن في الرغبة في التمتع بمباهج الحياة في الفترة السابقة لفترة الصيام الكاثوليكي في تلك المنطقة، علما بأن الشعب البرازيلي بشكل عام شعب مرح يعشق الحياة، ولا يبالي كثيرا بما يخبئه له الغد.
جمال مدينة ريو لا يمكن وصفه بكلمات، ولا حتى بكتاب، ويعجز اي فيلم سينمائي عن اظهاره على حقيقتهِ وشواطئها الرملية الواسعة هي الاجمل ولكنها الاخطر في الوقت نفسهِ فمن الصعوبة بمكان الاستمتاع بجمال البحر دون التعرض الى مضايقة الصبية المشردين الذين تمتلئ بهم مدن البرازيل الكبرى، وخاصة اذا عرفوا انك من غير اهل البلاد.
وهؤلاءالصبية هم السبب الرئىسي في عدم تطور السياحة في تلك البلاد بالرغم من كل ما تمتلكه البرازيل من مؤهلات سياحية لا توصفِ وقد حاولت جهات امنية التخلص من هؤلاء المشردين بقتلهم دون رحمة كالقطط او الكلاب السائبة، بعد ان يئست من ايجاد حل لوضعهم الخطير حيث كانوا ولا يزالون السبب وراء غالبية الجرائم الخطيرة التي تقع في شوارع المدن الكبرى، والتي جعلت من وظيفة حراس الامن، وظيفة مربحةِ ويقال ان هناك اكثر من خمسة ملايين طفل مشرد، وهم الوقود الذي يغذي عصابات الجريمة المنظمة في كل مدينة.
محطتنا الثالثة كانت مدينة ساوباولو وتعني 'القديس بول'، ولكن هذه المدينة ابعد ما تكون عن القداسةِ ففي نهاية فترة الاسبوع الذي مكثناه هناك نشبت اعمال عنف بين عدد من رجال العصابات، وبين الشرطة المحلية بسبب قرار حكومة الولاية نقل 600 من رجال العصابات المسجونين الى سجن ناءِ نتج عن حرب الشوارع بين المجرمين والشرطة والعصيان الذي نشب في السجن مقتل 75 شخصا، فقط لا غير، ولم يهتم احد بأمرهم اكثر منا!
تشتهر البرازيل بكونها الاكثر تقدما من الناحية الصناعية عن باقي دول اميركا الجنوبيةِ ويعمل في مصانعها التي تنتج كل شيء تقريبا عشرات ملايين العمال المهرةِ كما يمكن القول ان البرازيل هي الدولة الاكثر تقدما من الناحية الطبية، وخاصة في عمليات التجميلِ فعدد ما يجري بها من عمليات سنويا يزيد على 4 ملايين عملية، ويجري جزء كبير منها في منطقتها الجبلية الجميلة، والتي تتمتع بأجمل مناخ في العالم، والتي عقد فيها اكثر من مؤتمر عالمي يتعلق بالبيئة ومشاكل ثقب الاوزون!
ولهذا ليس من المستغرب ان نجد ان الفتاة البرازيلية، والمرأة بشكل عام، تتمتع بقوام لا مثيل له، وكأنهن جميعا من الرياضيات، والسبب يعود بطبيعة الحال الى عمليات التجميل، وشفط الدهون التي تجري هناك في كل مدينة تقريبا!
بسبب حالة عدم الامان التي تعم مختلف المدن البرازيلية، والتي تعتبر عمليات سلب ركاب السيارات مسألة عادية بين المدن الكبرى وبداخلها، فإن من النادر ان تجد من يحمل اموالا نقدية كثيرة معه، او يلبس ملابس غالية الثمن، او يحمل ساعة مميزة، او هاتف نقال ثميناِ كما يقوم غالبية الاثرياء بقيادة مركبات متواضعة لعدم لفت الانظار لهم من جهة، ولكي لا يأسفوا عليها ان سرقت.
كما تتطلب انظمة الامان من جميع حافلات الركاب تركيب موصلات هواء خارجية لكل عجلاتها بحيث يقوم 'كمبريسور' داخلي بنفخها بصورة تلقائية، وهي تسير، في حال تعرض اي منها الى اي عطل (بنشر)، حيث ان وقوف الحافلة في اي بقعة لاستبدال عجلاتها يعطي قطاع الطرق واللصوص، وما اكثرهم، فرصة لسلب ركابها.
البرازيل جميلة، وزيارتها ممتعة، ولكن الامان اجمل واكثر متعة!

الارشيف

Back to Top