أنا كيرلس

أكتب لكم من عالمي الخاص. ولدت مصريا وأحببت وطني على الرغم من كل علله ومشاكله، ولم افكر يوما بهجره. أحببت وطني منذ يوم عمادتي في كنيسة القرية. أحببت مصر كما هي منذ أن تخلل بخور الكنيسة وصوت المؤذن الآتي من خارجها شرايني، وأنا طفل صغير. أحببت احترام كاردينال كنيستنا، وتسابق الشمامسة للاحتفاء به، كما أحببت منظر تجمع رجال الأزهر في مساجد القاهرة، التي انتقلت اليها مع أسرتي. أحببت دقات أجراس الكنائس في الكريسماس بنفس قدر حبي لصوت دفوف الموالد ورمضان. أحببت النيل بعظمته ووقاره، كما احببت الترع في قريتي التي كانت مياهها تبللنا وتبلل كل ما كان يتعلق من رقابنا من صلبان وأهلة. أحببت مصر، ورفضت كل دعوات امي لأن التحق بمصنع أبي الكبير، واخترت أن تكون العسكرية طريق حياتي، لكي أدافع عن تراب وطني المقدس.

وفي يوم لا أعرف لونه وقعنا في كمين، وأنهت طلقة واحدة حياتي إلى الأبد، ولقي عدد من رفاقي مصيري نفسه، ولم أكن حينها قد تجاوزت الخامسة والعشرين من عمري.. القصير؟

خفف من حزني على موتي ذلك الشعور بالفخر والاعتزاز الذي ملأني وأنا أراقب، من فتحات نعشي، رئيس جمهورية بلادي وقائد جيشي وجمع مدني وعسكري غفير جاءوا لتوديعي، ونظرت، والعزة تملأني، لوجوه رفاقي، والزهو يملأني، فلم أجد ما يماثلها على وجوههم، بل وجدت دموعا في عين هذا وحزنا على وجه ذلك، وثالث يشيح بوجهه عني، ربما خجلا من أن تلتقي أعيننا، والرابع نظر لي بحيرة وبصمت ولم ينطق بشيء، أما الخامس فقد أومأ لي برأسه، طالبا مني النظر للجهة الأخرى، وهالني ما رأيت! مجموعة من اصحاب الذقون الطويلة والجلابيب القصيرة تحمل لافتة مدون عليها: «لا شهادة لمن مات على ارض المعركة على غير الإسلام». قشعريرة قوية سرت في جسدي، وتساءلت ما هذا؟ وفي الجهة المقابلة وجدت جمعا آخر من خريجي الأزهر يحملون لافتة تقول: كل من مات دفاعا عن وطنه فهو شهيد، ولو لم يكن مسلما. ولوحة ثالثة يحملها من يشبهون الإخوان بسحناتهم وزبائبهم وجباههم الخشنة، كتب عليها: «المشرك مصيره النار، بعد موته»، وأعرف ما يعنيه ذلك، فقد كان زملائي في المدرسة ينادونني، تحببا، بالمشرك. وفجأة ارتفع صوت شجار قوي بين مجموعتين، الأولى للمشاركة في توديعنا، والأخرى لتعطيل تلك المشاركة، وخرجت السيوف والخناجر من أغمادها، وبدأ القتال بين من يقول «شهيد»! وتلك التي تصيح قائلة: «مش شهيد»! وسالت دماء الفريقين وطارت أطراف البعض، وتقطعت رقاب البعض الآخر!

كل هذا هزني من الأعماق، فما الذي يجري لهؤلاء؟ ولم هذا التقاتل؟ سأوارى التراب بعد لحظات وهؤلاء الأغبياء المتعصبون مختلفون على هويتي، أنا «كيرلس فاضل حبيب»! كم أنا حزين لما حدث لوطني ولأبناء وطني!

الارشيف

Back to Top