طلباتكم.. وطلباتهم

بين الفترة والأخرى يطفو على السطح المعدن الثمين للكويتيين «الحقيقيين»، من عاشقي هذه الأرض. ففي الربع الأخير من القرن 19 ضربت بادية الكويت مجاعة مخيفة دفعت من بقي حيا من أهلها للنزوح لأقرب المدن بحثا عن الطعام، وهلك منهم كثيرون، وكان منظر هؤلاء الجياع بأسمالهم البالية، وهم يقبلون على المدينة، نصف موتى، مخيفا بالفعل، ففزع لهم عدد من كبار كرماء الكويت، وأعانوهم بمختلف السبل، وسميت تلك السنوات بـ«الهيلق»، ربما نسبة للهلاك.
وفي الفترة نفسها تقريبا، ضربت كارثة بشرية ومالية كبيرة الكويت فيما سمي بـ «سنة الطبعة» غرقت فيها سفن كويتية كثيرة، بسبب إعصار بحري وقع في المحيط الهندي عند مدخل مضيق هرمز، المؤدي للخليج العربي. وهنا أيضا تكاتف الأهالي بعضهم مع بعض وأعانوا المحتاجين، وخاصة أهالي البحارة الذين فقدوا معيليهم.
ولو أطلقنا صفة «الهدامة» على الكارثة التي تسببت فيها الأمطار الأخيرة لأنها هدمت الكثير من المباني والمنشآت والطرقات، وأغرقت ممتلكات الكثيرين، ومنها مدينة «صباح الأحمد» بسبب أخطاء هندسية ورقابية واضحة، لوجدنا أنه كانت هناك ثلاث «هدامات» سبقتها في تاريخ الكويت. الأولى في بداية القرن التاسع عشر ولا يعرف عنها الكثير، والثانية كانت عام 1934 عندما هطلت أمطار غزيرة استمرت لأيام تهدمت فيها غالبية البيوت، وخاصة الطينية منها، واصبحت تلك السنة فاصلة، تؤرخ الوقائع والأحداث قبلها أو بعدها، كأن يقال مثلا إن فلانا ولد في سنة «الطبعة» أو قبلها أو بعدها بعام.. وهكذا. وبينت تلك الكارثة أيضا معدن أهل الكويت الجميل.
أما الطبعة الثالثة، والتي كنت شاهدا عليها، فقد وقعت عام 1954 عندما هطلت أمطار غزيرة تسببت في هدم مئات البيوت وتشريد الآلاف، وتم إسكان الكثيرين في المدارس، المبنية من الاسمنت، وسعدنا كأطفال وقتها من تعطيل الدراسة لأكثر من اسبوع.
المعدن الكويتي الحقيقي ظهر على السطح للمرة الخامسة أو السادسة في الأيام الأخيرة، مع الطبعة الرابعة، حيث شاهدنا كيف خرج الكثيرون لنجدة المحتاجين، وكان لافتا للنظر وقوف عدد من الوزراء، لأول مرة في تاريخ الكويت، مع الناس وسهرهم لساعات طويلة وهم يوجهون ويساعدون وينسقون الإعانات والمساعدات، ويشرفون على التموين والمخابز الآلية، وتأمين الأغذية الضرورية للجميع، ولا ننسى في هذه العجالة الإشادة بالعاملين في الداخلية، ورجال الشرطة منهم بالذات، ورجال الدفاع المدني والمستشفيات وحتى في الإعلام والنفط والتربية و… ما تبقى من أوادم في وزارة الأشغال!
فزعة أهل الكويت، عاشقي ترابها، الذي اختفى بكامله تحت الأمطار، ظهرت للمرة المئة لتثبت وفاء مواطنيها لها، وهذا يستحق أن يقابل من «الحكومة الفعلية» بجزاء يساوي تضحياتهم، وهؤلاء لا يريدون شيئا منها غير تطبيق القانون على الجميع، ومحاسبة المقصرين، والقضاء على الفساد في المشاريع الحكومية، ولا أعتقد أنها طلبات تعجيزية، إن اشتهت «الحكومة الفعلية» ذلك، فقد تعبنا جميعا وبالفعل من كل هذه التجاوزات الصارخة والتسيب في كل مشروع تقريبا!

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top