مودي الذي غير مود الهنود

كان الهنود لقرونٍ الشعب الأكثر تسامحاً في العالم بعضهم مع بعض ومع الغريب، بالرغم من النظام الطبقي الصارم فيها، والرافض للفئات الدنيا. فالهند كانت وطن من لا وطن له، بصرف النظر عن جنسه أو دينه أو عرقه، ولم تطالب أحداً يوماً بأن يتحول للهندوسية كشرط لقبوله بينهم. فقد وفرت المأوى لليهود بعد انهيار هيكلهم، حسبما ورد في المصادر. ولجأ لها مسيحيو بلاد الشام هرباً من بطش الرومان. واختار زرادشتيو إيران الهند ملاذاً، مع احتلال المسلمين لبلاد فارس. كما كان للبهائيين وللكويتيين، كعشرات الجنسيات الأخرى، نصيبهم من كعكة الهند وكرمها وتسامحها. تمارس الطقوس الدينية في الهند بحرّية تامة، فالزرادشتيون مثلاً لا يدفنون موتاهم كالمسلمين، ولا يحرقونهم كالهندوس، بل يتركون أجسادهم على الأطراف العليا من أبراج عالية لتراها النسور وتلتهمها، وهذا طقس ديني لا تسمح به أي دولة في العالم، إلا الهند. كان من الممكن أن يستمر وضع التسامح النسبي على ما هو عليه إلى الأبد، لولا أن حدث ما كان متوقعاً. فقد بدأت النفوس تتغير والمواقف تتبدل مع ازدياد أعمال العنف الطائفية والدينية والعرقية، وبالذات بين الأقلية المسلمة الأكبر، وبين الغالبية الهندوسية، ولم يكن أمام الأخيرة خيار الاستمرار في التسامح، كما كان دأبها غالباً، بل بدأت تتململ من الوضع، واستغل سياسيون هندوس متشددون الوضع لمصلحتهم انتخابياً، وهكذا زادت أعمال التطرف وزاد عنفها، ووقفت وراء كل جماعة فرقها ومنظماتها الإرهابية المحلية والخارجية، وتسبب الأمر في وقوع خسائر ضخمة في الأرواح والممتلكات، وأدى في أكثر من حالة لوصول الوضع لحافة الحرب بين الهند وجارتها باكستان، النوويتين. وكانت ذروة التوتر قد بدأت عام 1992 عندما قامت أعداد كبيرة من الهندوس بهدم مسجد بابري الأثري، الأقدم في الهند، بحجة أنه أقيم على أنقاض معبد هندوسي. كل هذا العنف الديني والعنف المضاد، وغالبا بين الهندوس، والأقلية المسلمة التي تشكل %14 من السكان تقريباً، مهد الطريق لوصول نارندرا مودي، رئيس حزب جاناتا الهندوسي القومي المتشدد إلى الحكم عام 2014، وما تبع ذلك من فوز ساحق في الانتخابات الأخيرة، في سابقة لم تتكرر من قبل، وكان لعملية الهجوم الانتحاري التي تبنتها جماعة متطرفة متمركزة في باكستان، وأدت لمقتل 40 عسكريا هنديا، في الشطر الذي تديره الهند من كشمير في 14 فبراير، دور كبير في تحقيق هذا النصر. أنا عاشق للهند، شعبا وعاداتٍ ومأكولاتٍ وموسيقى وفناً، ويؤلمني مشاهدة الانحدار الذي تنزلق فيه رويداً رويداً، وغالباً بسبب العنف غير المبرر الذي ارتكبته جماعات دينية مسلمة متطرفة خارجية ضد النظام. كما أصبح الوضع يشكل مصدر قلق للكثير من كبار سياسييها، بعد أن وصلت الحال لما يقارب الوضع الذي كانت عليه الهند قبل انفصال باكستان عنها، عندما تعرض عشرات الملايين للقتل في أعمال قتل شارك فيها الطرفان. وقد بدأت مؤخراً حكومة الهند القومية بتغيير بعض مظاهر الدولة كمحاولة طمس منجزات المسلمين الهنود، وإعادة تسمية العديد من المدن والشوارع التي تحمل اسماء إسلامية إلى هندوسية، ووصل التغيير حتى لبعض الكتب المدرسية للتقليل من أهمية إسهامات المسلمين في الهند. وستزداد شهية رئيس الوزراء الهندي للتغيير مع التفويض الذي حصل عليه في الانتخابات الأخيرة. وهناك خشية لدى المسلمين من أن يتحولوا مع الوقت إلى مواطنين من الدرجة الثانية، خاصة أن ليس لديهم حزب سياسي يمثلهم. ما يحدث في الهند يحدث ما يماثله في الكثير من الدول، عندما تأتي جماعات إسلامية متطرفة وترتكب شتى أعمال الإرهاب، بحجة الدفاع عن الإسلام والمسلمين، ثم تغادر فجأة، تاركة وراءها كرهاً وحقداً أكثر مما كان في السابق دون أن تحقق للمسلمين، كأغلبية أو أقلية أي منفعة.. رأينا ذلك في الهند ورأيناه في سوريا وفي غيرها! ما يسري على مسلمي الهند يسري على كل الأقليات الإسلامية في دول العالم، وأوروبا بالذات، الذين عليهم تجنب كسب عداوة الأغلبية لها، فالأوطان دائماً تتسع للجميع.

أحمد الصراف


الارشيف

Back to Top